لم يمض وقت طويل منذ لم نعد نحن العرب خصوصاً مجبرين على خلع أحذيتنا في المطارات الاوروبية والاميركية. لم تمح من أذهاننا بعد مشاهد الكلاب البوليسية تشمُّ أجسادنا. حتى اليوم تتكشف لنا فنون جديدة للتعذيب ابتكرت في المعتقلات الاميركية واستعصت عليها مخيّلة هوليوود. بالامس القريب، رأينا “الدولة الاسلامية” تقتدي بغوانتانامو وتستعير منه لباسه البرتقالي لسجنائها.
مآثر “الباتريوت آكت” الذي وقعه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش بعد هجمات 11 ايلول 2001، لا تحصى. تلك الترسانة من الاجراءات الوقائية والقمعية في آن واحد، همّشت القضاة. صارت اللجان العسكرية هي القضاء والقدر. الارهابيون المفترضون باتوا يعتقلون ويعذبون في كوبا بناء على تقدير مطلق للاستخبارات الاميركية، بعيداً من كل الضمانات الدنيا التي يوفرها القانون الاميركي. وهذه الصلاحيات الاستثنائية وصل نطاقها الى أوروبا التي وافقت على “استضافة” مراكز استجواب سرية. أما شبكة التنصت فتجاوزت كل الحدود ووصل نشاطها الى الهاتف الشخصي للمستشارة الالمانية أنغيلا ميركل.
باسم “الحرب على الارهاب”، منحت واشنطن نفسها صلاحيات مطلقة لا سابق لها في نظام ديموقراطي وقد لا تنافسها الا سلطات الطغم العسكرية الحاكمة. والقانون الذي كان يفترض أن تنتهي صلاحياته عام 2005، مدد أكثر من مرة حتى حزيران 2015 وهو قابل للتمديد مجدداً.
وعلى رغم الصيت السيئ الذي اكتسبه “باتريوت آكت” على الضفة المقابلة للاطلسي، ترتفع في باريس حالياً اصوات تطالب باستنساخه، رداً على الهجمات الارهابية التي شهدتها باريس الاسبوع الماضي. الضغوط تتزايد على الحكومة للتشدد في مواجهة الارهابيين الكامنين وانشاء مراكز اعتقال خاصة (رئيس لجنة التحقيق البرلمانية في الخلايا الجهادية مارك كوتي). فمع أن باريس عززت ترسانتها القضائية في 13 تشرين الثاني بمنع مغادرة الشباب الذين يشتبه في أنهم ينوون الالتحاق بالجهاد ويجرم “المؤسسة الارهابية الفردية”، أظهرت تطورات الايام الاخيرة أن هذا القانون لا يوقف في أي شكل سفر هؤلاء المشتبه فيهم الى سوريا. ولعل رحلة حياة بومدين بين باريس ومدريد وتركيا وصولا الى سوريا أوضح دليل على ذلك.
يحق لباريس ومعها كل الحكومات الاوروبية تكييف قوانينها لحماية نفسها ومواطنيها، ولكن عليها ان تتذكر ايضا ان هذا التضامن الدولي التاريخي ضد الارهاب الذي تجلى في شوارعها الاحد كان ايضا رسالة دعم لحرية التعبير. ولا شك في أن باريس تدرك جيداً ان قانون “باتريوت آكت” الاميركي لم يجعل العالم أقل إرهاباً. فبعد 14 سنة من اطلاق بوش حربه العالمية على الارهاب لمواجهة “القاعدة” تحديداً، يسيطر هذا التنظيم ومجموعات اخرى قد تزيده وحشية، على مساحات واسعة من سوريا والعراق، وثمة أفراد يعتنقون المذهب نفسه قادرون على الضرب في قلب باريس وسيدني وغيرهما.