Site icon IMLebanon

حول ذبح الأب جاك هامل في النورماندي

الكاهن الأب جاك هامل الذي أسلم الروح إلى بارئها منذ بضعة أيام، مذبوحاً بأيادٍ آثمة ومجرمة على مذبح كنيسة في النورماندي الفرنسية… لست أدري لماذا صورَتُهُ التي نشرتها وسائل الإعلام قبل عملية الذبح الوحشية، ما زالت تراودني بإلحاح، وأذكرها صبح مساء، للقريب والبعيد، هذا الكائن المُسنّ الوقور البالغ ستة وثمانين عاماً من العمر لم يشفع له عمره ولا مبادراته ومبادرات كنيسته الخيّرة تجاه المسلمين حيث سبق لتلك الكنيسة أن قدمت قطعة أرض عائدة إليها لبناء مسجد أمّن حاجاتٍ ملحة ومباركة لمسلمي تلك المنطقة لممارسة إيمانهم وطقوسهم الدينية وأداء فرائض العبادة الإسلامية، صورته تلحّ على تفكيري: هل لأنه ذُبِحَ وهو في نفس عمر والدي المرحوم سماحة الشيخ محمد الداعوق وفي نفس السن الذي توفي فيه؟ هل لأن معالم وجهه تشبه معالم والدي في الشكل وملامح الشيخوخة وآثار العمر المديد التي كان عليها قبل وفاته؟ هل لأن رسالة ذلك «الأب» المسيحي تتشابه في إطاراتها العامة مع رسالة «أبي»، الشيخ المسلم؟ هل لأنني مؤمن مثله بتقارب الأديان السماوية ورسالاتها الداعية إلى المحبة والتلاقي والتسامح، وإلى انتمائها إلى ذلك الإله الواحد، إلهنا جميعا، والمبادىء الأساسية التي تجمعها الإنسانية الواحدة بكل خصائصها وطبائعها ومنابعها الداعية إلى الإيمان والتوحيد والهادفة إلى إصلاح المجتمعات وتصويب نهجها، ومنعها من التصرفات الشريرة وأعمال البغي والعدوان.

تعاودني صورة هذا الأب- الشيخ، وقد تم نحره نحر الخراف، وحمداً لله أن والدي كان قد توفاه الله منذ زمن بعيد، حيث أسلم الروح وسط عائلته وأولاده، وتلامذته ومريديه، دون أن يتسنى له مجرد السماع بما باتت عليه أوضاع الدين الحنيف في هذه الأيام الفاحشة. أذكر كيف أن المرحوم العلامة النائب أنور الخطيب، الذي كان أستاذا للقانون في الجامعة اللبنانية، كيف أطلعني ذات يوم على ثلاثة أحكام قضائية، أصدرها المرحوم والدي خلال رئاسته للمحاكم الشرعية وأوردها ضمن مجموعة الأحكام المدنية والشرعية التي كان قد أعدّها للتداول والمناقشة ضمن دروس الأعمال التطبيقية للأحكام واعتبرها اجتهادات في تقارب المذاهب والأديان واختارها لهذا السبب لتكون نبراساً لطلبته، مسلمين ومسيحيين، ينتهجونها في حياتهم العامة والخاصة، خاصة في هذا البلد متعدد الأديان والمذاهب. وأذكر زيارة مفاجئة قام بها سماحة الأمام موسى الصدر لوالدي، في منزله، وكنت حاضرا لتفاصيلها التي بدأت زيارة تعارف بروتوكولية، وانتهت إلى زيارة توافقا فيها على بذل جهود مشتركة لمعالجة القضايا الإسلامية الواحدة في إطار وطني بعيد عن العنعنات المذهبية الصغيرة، التي مهما بلغت في تلك الايام من حدود، فهي لم تكن لتصل إلى حدود هذه المرحلة المؤسفة والبالغة في الإعوجاج والخروج عن المبادىء الإسلامية الأصيلة. ولكن عملية الإخفاء التي طاولت سماحته، سبقت الجميع إلى تلك الجريمة التي أفقدتنا إماماً واسع الأفق، لمّاحا بتطلعاته التوحيدية والدعوة إلى التواصل والتلاحم بين المذاهب الإسلامية، الأمر الذي تشتد حاجاتنا إليه في هذه الأيام المدلهمّة بشتى أنواع المخاطر.

وتعود صورة هذا الأب – الشيخ، المذبوح ظلما وعدوانا في مذبح كنيسته في النورماندي، وأنتفضُ رفضا واستنكارا واستبشاعا لسلسة الجرائم الفظيعة التي يرتكبها أولئك التكفيريون بحق الأبرياء، قتلا ونسفا ودهسا وحرقا، حيثما كان وفي كل مكان، في بلادنا وخارجها، وصولا إلى قلب أوروبا مطاولةً خلاصة أبريائها الذين لا ذنب لهم، إلاّ أنه صودف أن كانوا في موقعٍ دفعهم حظّهم العاثر إلى أن يكونوا فيه، وهم في ذلك يتعادلون ويتساوون، مع أبريائنا في الأماكن والمدن العربية والإسلامية لا فرق بين مجني عليه في بيروت أو في الضاحية الجنوبية أو في طرابلس أو في بغداد أو في دمشق أو في السعودية، وبين أولئك المجني عليهم في باريس وبلجيكا ونيس وبرلين ونيويورك. هو الجنون… هي الجريمة… في أوجها، بخروجها عن كل منطق وكل تبرير وكل مجافاة لحقيقة الإسلام مبادىءَ ونهجاً وروحاً وآيات وقواعد. إنه الإجرام الجنوني وقد انتشر حيثما كان، وقد آن الأوان أمام العالم أجمع، بكل فئاته الواعية والخيّرة والبعيدة عن المنافع والمصالح واختلاق المنظمات المخابراتية الدولية، متعدّدة الجنسيات والإستهدافات، آن الأوان للبحث بجدية وعمق وموضوعية وإنسانية عن الأسباب والمسببات التي أطلقتها إلى الوجود بمثل هذا الإنتشار والثعلبة الجماعية والمنفردة، وبالتالي عن إيجاد الحلول الشفائية لهذا المرض الإرهابي المتفشي حتى ليكاد أن يهدد العالم بأسره بأفدح الأضرار والأخطار