شغلت مسألة الدولة الحديثة بال السوريين، حتى قبل انطلاق الثورة السورية الراهنة، وإذا ظل الحديث منحصراً حول إصلاح النظام السياسي وتغيير أساليبه طوال حكم الأب حافظ الأسد، فإن الحديث عن الدولة انفجر بعد وراثة الابن للسلطة، وذلك إن دل على شيء فربما يدل على قناعة النخب السورية أن المرحلة الأسدية لن تنتهي بنهاية الأسد الأب بل هي ماضية كمنظومة تبتلع الدولة ومستقبل السوريين.
ولأن نظام الأسد صهر الدولة في بوتقته، كان من المحتم أن تنتقل الثورة إلى مرحلة العنف من أجل تخليص الدولة من هذه الوضعية الشاذة، وبعد أن تكشّف للسوريين أن الدولة في مصر وتونس، على ضعفها، كانت الحكم الفيصل بين السلطة والشعب، حينما تم تفضيل بقاء الدولة وذهاب رئيس النظام، بعكس الحالة السورية حيث ستصبح الدولة مرهونة ببقاء النظام ورأسه بالخصوص مع الاستعداد الدائم للمغامرة بها إذا لزم الأمر، أو توظيفها لخدمة بقائه، سواء عبر رهنها لإيران أو تأجيرها لروسيا.
في كل مراحل الثورة انطلق نظام الأسد من قاعدة أن الدولة إما أن تكون أسدية أو لا تكون، وقد عبّر أنصاره على ذلك بشعار «الأسد أو نحرق البلد» والدولة هنا تعني السيطرة على المؤسسات والمجتمع بوصفهما أملاكاً شخصية للعائلة الحاكمة وأنصارها، وبالتالي ليس ممكناً التنازل عن أدنى صلاحية أو سلطة، من هنا يأتي منطق أنصار النظام أنه لا يمكن التنازل في السياسة عما لم يستطيعوا الحصول عليه بالبندقية، وليس مهما هنا أن عدم التحصيل ذلك عائد لدخول طرف أو أطراف أجنبية.
من شأن خلاصات الأزمة السورية ومآلاتها تصعيب طريق النضال إلى الدولة الحديثة لعقود قادمة، ما لم تحصل متغيرات طارئة وخارجة عن السياق الذي بدأت بولوجه الأطراف الدولية لصياغة الحل السياسي في سورية، بعد أن تم اختصار الأزمة باعتبارها إشكال دستوري ووجود إيراني في الجنوب السوري، فالمشكل الأول يجري حله بالتركيز في الدستور القادم على حقوق الأقليات العرقية والدينية في الدستور المنتظر، فيما حل الثانية من خلال إبعاد إيران 30 كيلومتراً عن الحدود الإسرائيلية!.
على ذلك، ليس من الصعب تصوّر شكل الدولة القادم في سورية، وخاصة وأن بعض ملامحها بدأ بالظهور، فهي من الناحية النظرية ستكون كيانًا متعالياً منفصلًا عن الشعب، أو أن الشعب لن يكون عنصراً تكوينيًّا بل حالة أشبه بجموع لاجئة لم تسوِّ بعد أوضاعها القانونية، وستبقى تحت الاختبار لجيل أو اثنين، أما الجغرافيا، وهي الركن الثاني في الدولة، بعد الشعب، وقبل السلطة، فستبقى سائلة وحدودها غير واضحة إلى حين اتضاح صورة المساومات الإقليمية والدولية.
الإضافة الجديدة على نمط الدولة الأسدية ستكون العامل البوتيني «الروسي»، وبعد إتمام روسيا مهمة وأد الثورة السورية تنتقل إلى مرحلة إعادة صياغة وهندسة الدولة السورية بما يذكر بنمط الدولة «الناقصة السيادة «التي كانت موجودة إبان العصر الاستعماري.
وستشكّل تلك الإضافة تشوّهاً على تشوّه، ذلك أن الإضافات الروسية على الدولة السورية ستزيد من الانحرافات المؤسَسة في أزمنة الأسدين «الأب والابن»، حتى أن الدولة الموعودة لن تكون شبيهة بالدولة الروسية، فبرغم أن بوتين يمسك بمفاصل تلك الدولة، إلا أنه غير مرتاح بالمطلق طالما أنها تسمح بمعارضة، ولو شكلية، ضده ومعارضين يضطر للمغامرة واغتيالهم في روسيا وخارجها، باختصار سيجتهد بوتين في تطبيق الدولة المشتهاة والتي يعتبر نفسه حرم من تطبيقها في روسيا، كما سيترك لمعاونيه في الخارجية والمخابرات، وحتى قيادة قاعدة حميميم وضع لمساتهم على هذه الدولة.
وفي هذا النمط من الدولة، فإن مضمون العقد الاجتماعي، التوافق على الفساد، فهذه الصيغة الوحيدة المتاحة للتعايش بين السلطة الحاكمة المتنمرة والمستقوية بالخارج، وبين الشعب المهزوم، وإذا كانت العقود السابقة بنيت على أساس حماية السلطة للشعب، في مرحلة ما بعد الاستقلال، أو الانحياز لفئات معينة، في مراحل حكم البعث الأولى، فإن العقود اللاحقة ستتم على أساس الاتفاق على الفساد، فالسلطة تثرى بواسطته والشعب يسير أموره ويتجاوز التعقيدات السلطوية من خلال قبوله آلية الفساد، وما يعزز هذا المسار طبيعة القوى التي تتوسط العلاقة بين الشعب والسلطة، وهي في أغلبها قوى ظهرت في مرحلة الحرب وأثرت من خلالها وشكلت سلطتها عبر اتباع أساليب إجرامية، محتواها في الغالب المشاركة في إخضاع المجتمعات، سواء تلك التي كانت تعتبر بيئة الثورة، وحتى المجتمعات المحسوبة على الموالاة.
على ذلك، فالترجيح أننا مقبلون على مرحلة سيكون فيها أي عمل مدني في السياسة والإعلام بمثابة شبهة وجنحة تقود صاحبها إلى المجهول، في ظل سيادة نظرية أن أصحاب هذه الأفكار هم من أوصلوا المجتمع والدولة إلى الخراب الراهن. أما القانون، والذي يعد عنصر التوازن الأساسي بين السلطة والشعب في الدولة الحديثة، فستتم مصادرته نهائياً من قبل السلطة الحاكمة بوصفه أحد أهم أدواتها في إعادة صياغة الكيان السوري، بدءاً من الدستور، ذو النسخة الروسية، مروراً بالمراسيم والتشريعات، التي ستشهد فورة غير مسبوقة، ظاهرها إعادة تنظيم الحياة بعد الحرب، أما مضمونها فتكريس هيمنة منظومة الأسد وتدمير ما غفلت الحرب عن تدميره في المجتمع السوري.
المرحلة القادمة في سورية ليست مرحلة إنعاش الدولة التي تحطمت في سورية حتى قبل الثورة بكثير، ويدرك نظام الأسد وداعموه الروس مدى تناقض وجود دولة سورية حقيقية مع مصالحهم ومخططاتهم، ويدركون أن القوى الحية في سورية تمزقت وباتت خارج الفعالية، وأنه سيمر زمن طويل قبل إعادة بناء تلك القوى، لذلك فهي فرصتهم للعبث بالزمن السوري وإنتاج هياكل مهمتها فقط تأمين استمرار مصالحهم.