IMLebanon

عن الحرب والقداسة

لا الحرب التي تشنها داعش على جميع مسيحيي سوريا والعراق هي حرب مقدسة، ولا الحرب التي تشنها روسيا على بعض مسلمي سوريا والعراق هي حرب مقدسة.

فالدين لا يقدس الحرب سواء كانت حرباً شاملة أو جزئية. والقديسون ليسوا جنرالات. والقواعد العسكرية ليست كنائس ولا أديرة. الحرب جريمة. والذين يقتلون الناس مجرمون. لا يغير من ذلك الشعارات التي يرفعونها، حتى ولوكانت شعارات باسم الله، او باسم كنيسته. يموت القديسون من أجل ان يحيا الآخرون. ويسفك المجرمون الدماء من أجل ان يموت الصالحون. القداسة هي فعل محبة وعطاء وإيثار. اما الحرب فانها فعل كراهية وقتل ومصادرة للحقوق. ولأن الله محبة فالمحبة مقدسة، يرفع لواءها عشاق الله والمؤمنون به حقا. اما الحرب فمتوحشة يمارسها أعداء الله، ومصادرو الإيمان به. لذلك لا توجد جريمة مقدسة، ايا كان المجرم، وأيا كانت الضحية، وأيا كانت الاسباب الموجبة التي تستخدم لتبرير ارتكابها.. وكذلك اياً كانت الذرائع لاسترضاء مرتكبها والتودد اليه، أو لمداراة سفهه.

تقوم طائرات روسية بطيّار ومن دون طيار بإلقاء قنابلها الفتاكة على مسلمين، ومن دون اسلام (داعش)، فتصيب مدنا وقرى تحوّل أهلها الأبرياء الى مواطنين من دون وطن.. ومقبورين من دون مقابر.. ثم تنصب المرتكبين والقتلة قديسين من دون قداسة.

لم يرسل الله الى الناس قادة جيوش.. أرسل اليهم الرسل والأنبياء. ولم ينزّل الله على الناس الصواريخ والبراميل المتفجرة وقنابل النابالم.. ولكنه أنزل عليهم مائدة من السماء.

لقد علمتنا الأديان ان القداسة هي التضحية بالنفس من أجل خلاص الناس، وليست قتل الناس بالجملة من أجل خلاص الشخص.

حرام تقويل الدين ما لم يقله. وعيب شرشحة فعل القداسة، بحيث يسبغ على القتلة والمجرمين، تشجيعاً وتبريراً لجرائمهم.

إذا كان الساكت على الظلم شيطاناً أخرس، فان من يبرر الظلم الى حد تقديسه شيطان فاجر. الأول مجرم سلباً. والثاني شريك في الجريمة ومحرض على القتل، وموغل في دماء الأبرياء والضحايا.

الأول يخاف من المجرم أو يخجل من الجريمة فيسكت ؛ الا ان اقل ما يقال في سكوته انه تواطؤ. والثاني لا يخاف من المجرم ولا يخجل من جريمته، بل يباهي به وبما يقوم به ضد الانسانية. ويمنح جرائمه صفة القداسة. متبرعاً بما لا يملك الى من لا يستحق.

ظلم مسيحيو الشرق ثلاث مرات رئيسة في التاريخ ؛

كانت المرة الأولى أثناء حملات الفرنجية (الحملات الصليبية) وعلى أيدي مقاتليها أنفسهم. وكانت بداية العدوان عليهم تدنيس مقدساتهم وتدميرها بدءاً من اسطنبول.. امتداداً حتى القدس.

وكانت المرة الثانية في عهد المماليك والعثمانيين الذين فرضوا عليهم نظام الدونية باسم الذمية، فأساءوا اليهم وأساءوا الى مفهوم الذمية وشوّهوا صورتها ومعناها.

ونحن نعيش المرة الثالثة على أيدي الداعشيين الذين استباحوا الحرمات ودنّسوا المقدسات وهدموا بيوتاً يذكر فيها اسم الله.

ان رفع الظلم عن مسيحيي الشرق لا يكون بفرض الظلم على المسلمين الذين يشاركونهم الوطن الواحد والمصير الواحد والإيمان بالله الواحد.

لم يرتفع صوت مرجعية دينية اسلامية في طول العالم الاسلامي وعرضه يبرر هذا الظلم أو يدافع عنه. بل على العكس، ارتفعت اصوات من مكة المكرمة (رابطة العالم الاسلامي) ومن القاهرة (الأزهر الشريف) ومن بيروت مراراً وتكراراً تدين وتندد وتتبرأ بصوت عال.. فما بال هذا الصوت النشاز يرتفع باسم الله من عاصمة لم تتعافَ بعد من وصمة الكفر بالله، ليغدق على الحرب العدوانية صفة القداسة؟..

لم يطلب مسيحيو الشرق لا اليوم في العهد الداعشي الأسود، ولا بالامس في العهد العثماني، حماية أجنبية. اصطنعت الحماية وفرضت ذاتها لتكون بمثابة حصان طروادة لاختراق حصون العيش المشترك في الشرق، ولضرب مقومات هذا العيش وتمزيقه ومن ثم للتذرع بالدفاع عن حقوق المسيحيين للدفاع عن مصالح مدعي الحماية.

ان حقوق مسيحيي الشرق مقدسة وطنياً ودينياً وانسانياً. ولا يقلل من قداستها ان تعتدي عليها قوى ظلامية طارئة لم توفر في عدوانها المسلمين أيضاً. اما حقوق مستغلي معاناة مسيحيي الشرق ومسلميه معاً، فانها أبعد ما تكون عن القداسة.

من حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كلاعب سياسي، ان يبحث عن غطاء لعملياته العسكرية. ولكن ليس من حق لا مفتي روسيا ولا بطريركها أن يقدما له الغطاء على حساب قداسة الدين وحقوق الانسان.

شكراً للكنيسة الارثوذكسية العربية التي نأت بنفسها عن تقويل المسيحية ما لم تقله.. وشكراً لمطران بيروت الياس عودة الذي نفى القداسة من حيث المبدأ عن الحرب.. كل حرب، وعن القتل.. كل قتل.

فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الانسان في أحسن تقويم، كما يقول الاسلام، او على صورته ومثاله كما تقول المسيحية، من أجل ان تقتله سكين داعشية أو قنبلة بوتينية. ولكن الله خلق الانسان وكرّمه ليخلفه في عمارة الأرض، ولينشر فيها السلام المقدس وليس الحرب غير المقدسة.