فوزي الجنيدي وعهد التميمي ليسا مجرّد اسمين عاديَّين لفلسطينيين إثنين يعبُران في محيط الأسماء التي تروي الحكاية وتقول في مبناها ومبتغاها وفحواها، إنّ الاحتلال مستحيل، ودوامه أكثر استحالة.
هما في الراهن تتمّة للماضي وتحضيراً للمستقبل. ويدلاّن في عمريهما الطفولي والفتي المتشابه (16 عاماً) على أنّ الزمن ليس رهاناً ناجحاً ولا ناجعاً. وإن أيّامه ليست ممحاة. وإن ائتلاف الأمرين مع القوّة البطّاشة لا ينتج الخلاصة التي يريدها الإسرائيليون. وإنّ تعاقب الأجيال ليس كفيلاً حتمياً (وأكيداً) بتثبيت الجور وقوننة السرقة وشرعنة الخرافة. وإن الوعي لا يُقولب بالاستناد إلى الحسّيات وحدها، ولا يتدرّج تبعاً للوقائع العنفية والزجرية، ولا يتأقلم مع الكبت، ولا ينمو في ظلّه.
ذلك أقلّه، ما يظهره الفلسطينيون جيلاً بعد جيل، وما تظهره فطرتهم الأولى. وما يختزنه وعيهم الحاد الجذري والأول العصيّ على الدواخل المادية المضادّة، والمكتسبة من رؤية العين وملكات الحواس المتمّمة.. وتلك خاصيّة لم تتوفر (أو لم تُعرف) عند الأقوام الأصلية التي جاء الأجنبي من بعيد وسرق أرضها ومحا ذكرها، لا في ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأميركية، ولا في أستراليا ولا في نيوزيلندا.. باعتبار الدول الثلاث هي الأمثلة الوحيدة (الأبرز) في تاريخ القرون الثلاثة الماضية للدول التي أنشأها مهاجرون ومستعمرون أجانب، وبنوها على أنقاض وحيوات مَن عاشوا فيها منذ الأزل.
معضلة الإسرائيليين مع الفلسطينيين، بهذا المعنى، أكبر وأعقد من مشكلة المهاجرين والمستعمرين الأوروبيين مع الهنود الحمر في أميركا، ومع الأستراليين والنيوزيلنديين الأوائل. ليس فقط لأنّ عالم اليوم فضّاح بآلياته وتقنيّاته ولا يحتمل الإبادات الجماعية والاستئصالية، بل (ربما؟) لأنّ التاريخ الفلسطيني مثل تواريخ المنطقة المتوسطية في جملته، لا يمكن فصله عن البعد الديني الأكثر تأصّلاً وتأثيراً من الأساطير والطقوس الوضعية. ولأنّ الرواية الصهيونية مليئة بالتخريف مثلما يتبيّن على الدوام من شهادات علماء الآثار والمنقّبين والحفّارين. ثم بكل بساطة، لأنّ الفلسطينيين شعب تام وليسوا قبائل متقاتلة ومتفرّقة ومنزوية في ذواتها. ولأنهم ملكوا الأرض وعمّروها وعاشوا فيها في قرى ودساكر ومدن على مدى التاريخ المعروف. ثمّ ببساطة أكثر، لأنّهم شرعيون قانوناً. وأهل حق وليس جور بالمقاييس المنزّلة. ومظلومون وليسوا ظالمين بمقاييس حقوق الإنسان وشرعة القانون والعدل. ثمّ لأنّهم جزء من أمّة واحدة في العرق واللسانيّات وليسوا طارئين أو هامشيّين أو متطفّلين يمكن شطبهم بالقوّة أو التزوير أو اللصوصيّة..
معضلة إسرائيل، أنّ الأجيال الفلسطينية التي تلت جيل النكبة، عمّرت وعيها على ذاكرة تلك النكبة لكنّها لم تتأقلم معها بل العكس تماماً. وكلّما مرَّ الزمن زادت وطأة الرفض ولم تخفّ. وزادت حدّة الشعور بالحق المسلوب والمسروق ولم تبور.. وهذا بالمعنى العملي كثّف غريزة البقاء ونمّاها وزاد من الركون إلى “سلاح العدد” في مواجهة عدد السلاح وحامليه أكانوا جنوداً أو مستوطنين.. مثلما زاد وتائر التحدّي إلى مستوى رفع الحجر في وجه دبابة. وإلى حدّ أن يتكالب أكثر من عشرين جندياً مدرّعاً من الرأس إلى أخمص القدمين على فتى أعزل في السادسة عشرة من عمره اسمه فوزي الجنيدي.. ثمّ أن يشنّ عشرات الجنود غارة في الليل على بيت فتاة في السادسة عشرة أيضاً اسمها عهد التميمي من أجل اعتقالها بتهمة “ضرب” جنديَّين!