IMLebanon

عن «التفاهُم»… و«سوء التفُاهم»

قد لا تنفع أيّ عمليات تجميل في إعادة الثنائية العونية القواتية إلى ما كانت عليه لحظة ولادتها في احتفالية معراب الشهيرة بداية العام الماضي، وإلى لحظة الانسجام الاستثنائي، الذي تجلّى في المحطة الرئاسية التي انتهت بانتخاب الرئيس ميشال عون.

منذ ذلك الحين، حرصَ الطرفان، وما يزالان حتى الآن، على تقديم العلاقة بينهما في قالبٍ فولاذي مُحصَّن بالسمن والعسل، وبتفاهمٍ صلب بينهما غير قابل للاهتزاز أو الخَرق. ولكن ما حصل هو أنّ الثلج ذاب، وصَدقت المقاربات السياسية التي وضَعت العلاقة بين الطرفين المتفاهمين، في قالب زجاجيّ قابل للكسر، بدليل الفسوخ التي شابت هذه العلاقة في الآونة الأخيرة، والتي تبدو من النوع غير القابل للّحم.

ما الذي جرى؟

البعض قارَب التفسّخ في العلاقة بين «الثنائية»، كأمرٍ طبيعي وغير مفاجئ، ربطاً بالتاريخ الذي يجمع بين الطرفين اللذين كانا لدودين في فترة ماضية، وربطاً بما يريده كلّ طرف من الآخر، على اعتبار أنّ التفاهم بينهما ما هو إلّا محطّة ظرفيّة، مصلحية، تعَنونَت من جهة بالهدف الرئاسي الذي حكم الفريق العوني، ولا شيء آخر غيره. ومن جهة ثانية بالهدف الأساس لـ«القوات اللبنانية» ببناء الركيزة المتينة لحضور آنيّ ومستقبلي فاعل سياسياً ومسيحياً ووطنياً.

الطرفان محكومان بالصمت حاليّاً وحتى إشعار آخر، إلّا أنّ الصورة على حقيقتها، توضحها مقاربةٌ من «أهل بيت التفاهم»، وفيها أنّ رهان الرئيس عون على الدكتور سمير جعجع حدودُه رئاسة الجمهورية وليس أبعد من ذلك، أي أقلّ مِن رهان جعجع على عون، إذ إنّ رئيس «القوات» كان يطمح من خلال التفاهم إلى الكثير الكثير، وإلى الأخذ في مجالات متعدّدة ومختلفة.

الطبيعي، كما يَرد في هذه المقاربة، أنّ كلّ اتّفاق أو تفاهم بين متناقضين، تكون فيه مساحة من الغموض. وفي هذه المساحة، يبدو أنّه كانت هناك قراءة خاصة بجعجع، خلاصتُها أنّه ليس شريكَ العهد، بما يعني الرئاسة الأولى، والمساحة الجماهيرية التي تمّت بالولاء لرئيس الجمهورية وتيّاره السياسي، بل هو «شريك النص» في مكان آخر، بمعنى أنّ جعجع شخصياً، ومن خلاله «القوات» هو الممثّل والوكيل الشرعي والحصري والوحيد للمسيحيين الآخرين. ومن هنا، كانت المعركة التي خيضَت لمنع إشراك أيّ طرف مسيحي خارج «الثنائية» في الحكومة وخصوصاً حزب الكتائب.

هنا لا ننفي أنّ ما عزّز مقولة «شراكة النص» في المنطق القواتي، هو ما صَدر عمداً أو عن غير عمد، من الجانب العوني من كلام عن «الثنائية المخَلّصة للمسيحيين»، وعن «تسونامي» عوني – قوّاتي، وشراكة كاملة في كلّ شيء؛ سياسياً وحكومياً ونيابياً ووظيفياً، وتحت عنوان استرداد حقوق المسيحيين إلى أصحابها الطبيعيين.

وبحسب قراءة «أهل بيت التفاهم» العوني – القواتي، فإنّ أوّل استحقاق تمظهرَت فيه هشاشة قراءة «شراكة النص». كان الحكومة، حيث حاولت «القوات» تأكيد منطق الشراكة كما تريده، فرَفعت – على فرضية دعم «الشريك» العوني المطلق لها – سقفَ المطالبة بحصّة وزارية فضفاضة خمسة وزراء فما فوق، فلم يُسعفها «الشريك»، ثمّ وزارة سيادية فلم يُسعفها الشريك، ثمّ وزارة خدماتية والأشغال تحديداً، فلم يُسعفها الشريك أيضاً. قدّمَ عدمُ الإسعاف هذا شهادةً واضحة في النهاية بأنّ قراءة «شراكة النص» كان مبالغاً فيها.

فقرّرت «القوات» أن تَبلع هذا الأمر في انتظار محطّة تعويضية لها في التعيينات، التي جاءت بدورها لتؤكّد سقوطَ هذه القراءة، لا بل لتؤكّد أنّ مقولة «شريك النص» ساقطة عونياً.

بديهيّ في هذه الحالة، كما تشير قراءة أهل بيت التفاهم، أن يعبّر جعجع عن ضيق. ومِن هذا الشعور بدأت تَصدر إشارات عن امتعاض في أكثر من مجال:

– أولاً: من خلال «المنتعة» في موضوع تلفزيون لبنان، ومحاولة القول بضرورة إخضاع التعيينات لآلية التعيين، التي هي غير ملزمة أصلاً لمجلس الوزراء، علماً أنّ تلفزيون لبنان، إلى جانب المجلس الوطني غير خاضعَين لهذه الآليّة.

– ثانياً: تأخير إطلاق مجالس إدارة المستشفيات الحكومية، التي كان يفترض أن تكون من ضمن دفعةِ التعيينات التي صَدرت.

– ثالثاً: ترشيح قوّاتي من الساحل في البترون وتركُ الجرد، بما بدا وكأنّه مخاطبة سلبية مباشرة للوزير جبران باسيل. تسبَّبت بمناكفات عونية قواتية حول هذا الأمر، وما زالت مستمرّة، وبلغت حدَّ القول في بعض المجالس العونية أنّ التحالف الانتخابي العوني القوّاتي ليس مقدّساً.

– رابعاً: ملفّ الكهرباء، الذي فهمه الطرَف الثاني للتفاهم كمحاولة «تنقير» قوّاتية على باسيل. أكثر ممّا هو إصلاح لهذا القطاع. وقد ردّ باسيل بـ«تنقير» مماثل بشكل غير مباشر حول وزارة الصحّة.

إذاً، الطرَفان وكما تؤكّد قراءة أهل البيت، يتجاذبهما حالياً «كباش ناعم»، إنّما تحت سقفِ علاقة «مساكنة انتخابية» يحرَص جعجع على استمرارها أكثرَ مِن حِرص الطرف الثاني للتفاهم عليها. بمعنى أوضح أنّ حاجة جعجع إليها أكبر من حاجة الآخرين إليه. إذ إنّه انتخابياً في الموقع الذي يأخذ من الآخرين أكثر بكثير ممّا يمكن أن يقدّمه هو لهم.

وهذا ما تُثبته الاستطلاعات، التي أجريَت ما بعد وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، بما فيها الاستطلاعات القواتية، إذ إنّها كلّها تشير إلى صعود عوني وتراجُع قواتي. يضاف إليها الأداء السياسي، الذي شهد تحوُّلاً من جانب واحِد، وأحدُ الأمثلة المعبّرة هو أنّ الفريق العوني لم يذهب إلى السفارة الأميركية أو إلى غيرها من السفارات التي لا تربطه بها علاقة سمن وعسل، بل إنّ هناك من ذهبَ إلى السفارة الإيرانية!

خلاصة القراءة، أنّ الحِرص القواتي على العلاقة، حتى ولو كانت مجرّد مساكَنة، هو حِرص جدّي، لعلّها تؤتي بعضَ الثمار في الانتخابات النيابية المقبلة، حتى ولو كانت التحالفات بين التيار الوطني الحر و«القوات»، تحالفات موضعية، وليست شاملة كلَّ الدوائر كما ترغب «القوات».