IMLebanon

عن إطلالة السيد حسن

كان هادئاً السيد حسن نصرالله في «الإطلالة» التلفزيونية «المكثفة»، على غير ما كان عليه في «عاصفته الإعلامية الماضية». عاصفة لفظية متفجرة، مقابل «عاصفة الحزم» المركزة. من عاصفة الكلام، إلى «عاصفة» الإنجاز.

عال! إذاً كان هادئاً. وهدوؤه أملى عليه وضوحاً لقديمه، والتباساً لجديده. قديم متلعثم إزاء جديد غير محُدّد ولا مُسدّد، ولكن، في كلتا الحالتين، بدت الإطلالة في عمومها، احتفالاً «شمسياً»، بالإرادة الإيرانية، لكن من مواقع سبق أن أُكدت، بتعبير «متجدد». لكن في تماهيه الكامل، والمتكامل بولاية الفقيه، بدا أنه يتكلم بلغة الأنظمة الطغيانية العربية وغير العربية المتساقطة. فهو يلغي كل «تمايز» بين الشعب العربي (كما حال إيديولوجية عروبيته البعثية)، واستخدم كلمة «القطر»: فهو رأى أن جبهات المنطقة «مترابطة»، ومتمازجة، ومتخالطة ولا يجوز تحت أي ذريعة أو مُبرر جعل خيارها هنا أو هناك «خياراً.. قُطرياً»، على «طريقة لبنان أولاً»، أو «فلسطين أولاً».

«قُطر» ماذا يا سيد حسن؟ فإما أنك «عربي» تتكلم باسم ضرورة أو حتمية «الوحدة العربية» و»مجّ» كل «قطرية» «بغيضة»، كما كانت الأمور بين نظامي البعث السوري والعراقي، الساقطين أو»أنك تتكلم وكأن هناك وحدة تمت، ولا يجوز كسرها لا بالمشاعر الوطنية الضيقة، ولا الحدودية، ولا «السيادية»، ولا السياسية، ولا الخصوصية… لكن الغريب كأنك تقول «القطر» ولا تعني القطر العربي. وتتكلم «مجازاً» بالطبع عن «الأمة» العربية «ذات الرسالة الواحدة الخالدة»، وأنت لا تفيدنا، من أي أمة أنت؟ ولا إلى أي قُطر تنتمي: أمة ولاية الفقيه أو الإمبراطورية الإيرانية.

فالسيد حسن استل من قاموس الأحزاب القومية العربية ليقصد القومية الفارسية. إنه «لعب» معنوي على الكلام، بل كأنه يجمع الطباق في تقيضيه! لكن، وفي الحالين، إنها النبرة «التوتاليتارية» الإيديولوجية التي اعتمدتها الأنظمة الاستبدادية العربية وغير العربية: مرجعية واحدة لا مرجعيتان، وقائد واحد (للأمة) لا قائدان، ومرشد واحد لا مُرشدان. لكن ما «ينهنه» هذا المزج «الثوري» بين «المفهومين»، أن القومية العربية في تجلياتها الأولى وفي فضاءاتها الثقافية هي حركة تنويرية، علمانية، تعددية، تحريرية، دعت إلى الحرية والديموقراطية، عبر مفكريها الكبار، من قسطنطين زريق إلى شبلي الشميل، وفرح أنطون (ولا ننسى بالطبع عبدالناصر)، وصلاح البيطار و(ميشال عفلق)… وسواهم. هذا قبل أن تصل الأحزاب الديكتاتورية إلى السلطة بانقلابها تحت عنوان العروبة، والأمة العربية، والفكر العربي، والتاريخ العربي، والمستقبل العربي! فهؤلاء حولوا الفكر «الوحدوي» الجامع، إلى صراعات «قطرية» وهي في جذورها تحولت سياسية، وعائلية، ومذهبية، كما هي الحال مع علي صالح وحافظ الأسد، وصدام حسين، والنميري، وأنور السادات الذي (عمل على تعويم إسلاميين متطرفين لمحاربة العروبة والناصرية واليسار، واستخدام هؤلاء لإثارة الفتنة المذهبية بين المسلمين والأقباط في مصر).

[ الأمة

والغريب أنك يا سيد حسن استعملت مرات عدة مصطلح «الأمة» لكن من دون «تنسيب«: وسلوك الحزب يدل على مُضمرك بأن «الأمة المقصودة» هي الأمة الإيرانية (عفواً الإمبراطورية الامة.. الفارسية)، ونظن أنك في إطلالتك الأخيرة، لم تفعل سوى ذلك؛ ومن موقعك «الأممي» هذا تكلمت باسم الشعوب العربية، وحذرتها من «الوقوع» في خصوصية: وضربت مثلاً «فلسطين أولاً» أو «لبنان أولاً»: ففلسطين أولاً وأخيراً يا سيد حسن لا يقرره لا أنت ولا إيران ولا إسرائيل… الشعب الفلسطيني وحده يحدد مستقلاً وحراً توقيت معركته ونضاله ومقاومته: لا النظام السوري ولا ولاية الفقيه ولا أميركا ولا أي دولة أخرى.

أما «لبنان أولاً» فقد ثبتتْ مفهومه ثورة الأرز، والربيع اللبناني، بطرد الوصاية العائلية الأسدية عن لبنان. أترى تفضل الوصايات والاحتلالات يا سيد حسن على الإرادات الشعبية الخاصة، ففلسطين هي قضية فلسطينية ثم عربية ثم عالمية: ولا تنتظر ممن دمرها (البعثان وولاية الفقيه متضامنين مع إسرائيل)، ليتكلم باسمها. وهكذا لبنان. وعندما انتفض الشعب اللبناني بعد جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، كان يربط استقلاليته بانفتاحه العربي (كدولة عربية أولاً وأخيراً) واحترام إرادته!

[ الانتماء

ونظن يا سيد حسن أن الربيع العربي في لبنان وتونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، أراد استعادة «الانتماء» العضوي ولكل شعب، بإرادته وترابه، ووجوده؛ تلك الإرادة التي اغتصبها الطغاة بالقوة (تماماً كما حصل في الثورة الخضراء الإيرانية، التي ووجهت سلميتها بالنار والحديد والقمع. ووقفت أنت مع جلاّديها!). فالثورة الإيرانية أرادت قبل كل شيء استعادة «هوياتها» المتعددة، سواء الدينية (لا المذهبية)، والوطنية، والفكرية، والسياسية والإنسانية والثقافية في مواجهة فارضي «الهوية المذهبية الواحدة القاتلة» (وهم أهل ولاية الفقيه!).

[ التكليف

من هذا الموقع الديموقراطي والانتمائي والسياسي، لم يكلف اللبنانيين أحداً لا باختيار نظامهم، ولا معاركهم ولا حروبهم ولا نظامهم ولا حدودهم ولا خياراتهم.

في إطلالتك الأخيرة حاولت أن تربط بين ما يجري في اليمن والعراق وسوريا، بما يهدد لبنان من مخاطر وتحديات سياسة وأمناً… و»فيدراليات». الواقع أنك وحزبكم (ومن الخلف إيران). هم من ربط كل ذلك ببعضه، لسبب بسيط، أن المسألة صارت مسألة محاولة احتلال إيراني لهذه «الأقطار» العربية. فالقضية الإيرانية تحاول جعلها قضية «الأمة» العربية، وقضية كل بلد عربي! وكأنك، بتحذيرك من اعتماد هذه الشعوب استقلالية قراراتها، تعلن «حالة طوارئ»، عربية! (لا إسرائيلية). (وويل لمن يتكلم عن العدو الإسرائيلي خارج هذه المنظومة الإيرانية)!

[ من يهدد لبنان

والقول أن ما يجري من أحداث في عدد من الدول العربية «يهدد لبنان»، هو كلام «حميمي» وخاص، لأن من يهدد لبنان هو الذي «جعله» ولاية من ولايات الفقيه، ووجود حزبك في اليمن، والعراق، وسوريا، هو التهديد الحقيقي للبنان. انسحب من هناك… ويزول التهديد أو على الأقل يضعف إلى آخر نقطة من نقاطه.

ومن هذا الموقع ترى أن «الجبهة الشرقية فرضت نفسها على الواقع السياسي في لبنان». والواقع أنك كحزب يرتبط بالنظام الإيراني، فرضت واقعاً سياسياً على لبنان، لم يكن لا من اختيار أهله، ولا دولته، ولا جيشه، ولا حكومته! كأنك تحلّ «التجريد» محل الواقع. والذين جردوا الحياة والواقع والتاريخ الحي هم من «أدلجوا» كل شيء: الأدلجة أسوأ أنواع التجريد الفكري والإنساني.

[ القلمون

ومن هذا المنطلق، نرى يا سيد حسن أن «تحدي القلمون» هو استحقاق «دفاعي». إنه الكلام ذاته. فهذا رأي الحزب. وهو لا يمثل إلاّ نفسه في لبنان، وتوسيع «التجريد الفكري» والجغرافي، والإنساني يعني إلغاء العناصر التاريخية، والجغرافية، والإنسانية، والإنتمائية. من هنا إن تحدي «القلمون» هو استحقاق الحزب وحده. وهنا أتساءل مكرراً ما نرفضه «من كلفك وحدك كل هذه المشقة، والتضحيات؟ أترى الشعب اللبناني؟ عفواً لا تريد «إجماعاً» ونحن معك: لكن في المقابل رفض الإجماع لا يعني رفض المجتمع المتعدد: فحزبك يا سيد حسن هو حزب «الإجماع» في بيئتك المحضونة، والمقموعة، حزب رفض التعدد. في بيئتك تؤمن بإرادة الحزب الواحد فرض الإجماع، وعلى صعيد الشعب، ترفض هذه الفكرة! (إنتبه قد يرتد عليك هذا التفكير كما ارتد على سواك: من الميليشيات المسيحية، إلى الإسلامية، فإلى الجنرال عون!).

وأنت من المنطق الإجماعي الاختياري تعلن حرباً شاملة متحالفاً مع طغاة المنطقة: من النظام السوري، إلى الرئيس صالح المخلوع، فإلى المالكي (السابق الذكر)، فإلى الملالي، فإلى روسيا: ولو! يا أخي اختر ولو حليفاً واحداً يداه غير مضرجتين بدم شعبه! ولو! أمن هناك استوحيت فكرة الإجماع حول القائد «99,99 بالمئة» وصدام حسين وصل إلى 100 بالمئة! إذاً أنت تنحاز إلى «إجماعيات» الطغاة (نتذكر ستالين، وهتلر، وخامنئي، وموسوليني، وبينوشيه وبول بوت…). هؤلاء كلهم كانوا إجماعيين قسرياً، يقضون على كل إرادة فردية، أو «قطرية» (ضمن منظوماتهم التوتاليتارية) أو خصوصية، أو «قطرية» أو فكرية: كأنما يقولون ممنوع «أولاً» إلاّ للزعيم القائد: «لا الحرية أولاً»، و»لا الديموقراطية أولاً» ولا الشعب الإيراني أولاً، ولا السوري أولاً… ولا «اليمني» أولاً.

[ المفارقة

لكن المفارقة في إطلالتك الهادئة يا سيد حسن، ومن ضمن ضرورة الإجماع رفضك للفدراليات (وهي عدو الإجماع)، والتقسيم التي يسعى الأميركيون إلى «تثبيته». لكن ربما غاب عنك أن حزبك بالذات هو فدرالية في ذاتها (لكن فدرالية خاضعة لفكرة الحزب الإجماعية)، في لبنان، أو فلنقل بأسلوب آخر حزبك جعل من «البيئة» المحضونة من «كانتوناً» خارج الدولة، والسلطة، والقانون: أي جمهورية خارج الجمهورية». إذاً فهل هي أميركا من نجح بتكريس هذا الكانتون، تقليداً لمجموع الكانتونات المذهبية السابقة التي رسمتها الميليشيات المسلحة «اللبنانية» في مناطقها «النظيفة» المذهبية، والنقية، و»الإجماعية» تحت سلطة القائد الميليشيوي (مسيحياً كان إو إسلامياً). والمعروف مُؤتمرٌ من الخارج. أي تحويل «الكانتونية« إلى «مستعمرات احتلالية».. وتحويل أهلها «جاليات» متناحرة!

وأنت يا سيد حسن (الذي كنا وراءه عندما كان حزبه مقاوماً للعدو الإسرائيلي، وكتبنا الكثير، مُكبرين تلك المقاومة)، تريد أن تقنعنا أن وجودك المسلح في سوريا هو للدفاع عن لبنان! غريب، لكن عند انخراطك لإنقاذ نظام الأسد، أخبرتنا أنك ذاهب إلى هناك بمهمة جهادية مذهبية خالصة «حماية مقام السيدة زينب» (وليس مؤكداً بعد أن يكون مقام السيدة زينب في سوريا، فهناك من يقول أنها ذهبت إلى مصر، وآخرون أنها توجهت إلى العراق!). صَدقَّنا مثل هذا الكلام عندما كنت حزب المقاومة ضد إسرائيل، و»مشاريعها الاستيطانية، والتخريبية، ومخططاتها المذهبية لتقسيم العالم العربي«.. (لكن من يتنكب هذه المهمة يا سيد حسن بدلاً من إسرائيل اليوم؟!)، لكن كيف نصدق عندما انتقلت من السيدة زينب، إلى الدفاع عن «الشيعة اللبنانيين داخل الأراضي السورية»، ثم إلى الدفاع عن نظام بشار، ثم إعلان «إنقاذه» «تحت إمرة ولاية الفقيه» (كما صرح الشيخ نعيم قاسم)! ولا أظن أن الحزب كان يحتاج إلى أي مبرر ما دام «يرفض الإجماع» وما دام «قراره منه أو من الخارج» عند نقل «المقاومة» من إسرائيل إلى الشعب السوري (قبل ظهور داعش وسواها). واليوم لا أرى أن الحزب يحتاج إلى من يكلفه، خصوصاً الشعب اللبناني، والدولة اللبنانية، عندما يختزل كل هؤلاء بتكليف نفسه بنفسه، باعتبار تكليف نفسه خارج أي إرادة لبنانية هو تكليف إنساني، وديني، وأخلاقي، ووطني.

[ من يكلف من؟

فهل ترى يعتبر السيد حسن نصرالله أن تكليف الشعب اللبناني له غير إنساني؟ وان حتى الاستئناس بمشورة الدولة هو «غير ديني» (باعتبار السلطة الدينية فوق كل سلطة تشريعية، وشرعيتها فوق كل شرعية؟)، أو حتى سؤال الحلفاء هو غير أخلاقي؟ وان الاعتراف بالدولة كناظم لكل السلطات هو أمر غير وطني؟! غريب! إنه اختزال «فوقاني» سلطوي، لكل لبنان، ونظامه، وأعرافه، وشعبه؟ ولا أظن أن حزباً يحتكر القرارات المصيرية وحده (وهو المحتكر من الخارج باعترافه)، قادر على أن يستمر بمثل هذه الممارسات. سترتد عليه في النهاية كما ارتدت على عناقيد الميليشيات المذهبية السابقة وحزب الله آخر نظامها!).

وإذا أردنا استخلاص إطلالتك الهادئة فيمكن اعتبارها اختزالية: 1) اختزال الشعب اللبناني بحزب مُختزَل أصلاً، 2) اختزال الديموقراطية اللبنانية باستبدادية مغلفة بشعارات غالباً ما استخدمتها الأنظمة العربية الاستبدادية، 3) اختزال المنطقة كلها بمصالح إيران، (ولو بدا ذر الغبار في العيون مفضوحاً)؛ فإذا لم يعد شعار مقاومة إسرائيل أولاً، ولا مقاومة إسرائيل الكبرى أولاً، ولا إرادات الشعب العربي، واحداً واحداً، أولاً… فإنه بدا من وراء الإطلالة أنكم أحللتم الهجوم على السعودية «أولاً»، محل إسرائيل (سبق أن قال بعض حزب الله أن الجولان ليس أولوية: أي ليس أولاً في الأجندة)، وأحللتم الانخراط في مخططاتها أولاً، من دون مصالح الشعب العربي، وأن اولاً وأخيراً بالنسبة لإيران (ولكم طبعاً) هي السعودية والخليج. لم تعد إسرائيل «العدو» الأول… بل صار كل عروبي، أو منتم لبلده ولترابه ولتاريخه: كأن «رؤيا» حزب الله (وإيران) هي خلق شعب عربي غير عربي، ولبناني، غير لبناني، وفلسطيني غير فلسطيني، وإسرائيلي غير «صهيوني»!

أما قولك «أن قيام السعودية بعملية برية في اليمن مستبعد لأنهم لم ينجحوا في استئجار جيوش»، فرائع يا سيد حسن!

لأن ملايين العرب يقولون «أن ما كان يسمى المقاومة في لبنان… لم تعد سوى جيش مستأجرَ«، من إيران! كلمة أخيرة: كل الميليشيات المذهبية التي عرفها لبنان على امتداد 40 عاماً… وحتى اليوم لم تكن سوى «جيوش مستأجرة»!…