في ظنِّ كثر من اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، أن لبنان كان ولا يزال محور اهتمامات العالم، منذ الفينيقيين الى اليوم. لا بأس في الأحلام والأوهام التي قد تلامس Megalomania، وما قد تسبّب من انتكاسة معنوية لاصحابها عندما تنجلي الصورة. ساهمت الهجرة الباكرة ونجاح اللبنانيين في بلدان الاغتراب في مجالات العلم والأدب والأعمال وسواها في تعميم الانطباع السائد أن لبنان في صلب الاهتمامات الدولية. صحيح أن «النبي» لجبران خليل جبران يتصدّر الى اليوم لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في أميركا، الا أن قرّاء جبران لا يرون في «النبي» أبعاداً لبنانية، لا سيما أن جبران نفسه ميّز بين لبنانه ولبنان الآخرين. أمين معلوف وصل الى العالمية عبر الأدب الفرنسي وكارلوس سليم بنى المتاحف في المكسيك وليس في لبنان. والأمثلة عديدة ومتنوعة.
من الصعب اقناع معظم اللبنانيين أن لبنان 2015 لم يعد في سلّم أولويات الدول الكبرى وحتى الدول الإقليمية المعنية بالشأن اللبناني، وأن معركة الرئاسة ليست من «حواضر البيت» في مواقع القرار المؤثرة. في العام 2008، وبعد أزمة كادت أن توصل البلاد الى الهاوية، بادرت قطر، وهي في ذروة حركتها الإقليمية الطموحة، لإيجاد تسوية لأزمة الحكم والسلطة في لبنان، بالتنسيق مع عدد من الدول النافذة في المنطقة والخارج، ومنها للمرة الأولى تركيا. وجاءت التسوية رزمة متكاملة لخريطة طريق تعثرت في انطلاقتها، وتضمنت انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً تنطبق عليه صفة التوافقية في مناطق لبنان كافة ما عدا بعض دوائر جبل لبنان حيث قاد معركة إسقاط العماد ميشال عون في الانتخابات النيابية في 2009.
المحطة الأخيرة التي برز فيها اهتمام دولي جدّي بلبنان كانت حرب صيف 2006 التي انتجت قرار مجلس الأمن 1701. وقبلها، جاء الاهتمام الدولي على خلفية النزاع العربي ـ الإسرائيلي، بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1978 وصدور قرار مجلس الأمن 425 الذي بقي حبراً على ورق لأكثر من عقدين، تبعه الاجتياح الاسرائيلي الأوسع في 1982. بإيجاز، كان الاهتمام الدولي بحروب اسرائيل في لبنان وليس بلبنان بحد ذاته.
أزمة اخرى شهدها لبنان سنة 1958 في زمن الحرب الباردة، استدعت ارسال «المارينز» الى بيروت بعد الانقلاب الذي اطاح النظام العراقي المتحالف مع الغرب وقيام الوحدة بين مصر وسوريا. بين روبرت مورفي، موفد الرئيس ايزنهاور الى لبنان في 1958، وريتشارد مورفي، موفد الرئيس ريغان في 1989، ثلاثة عقود. وبين الموفدين جاء السفير الاميركي دين براون موفداً رئاسياً في 1976 لتسهيل انتخاب رئيس الجمهورية تفاديا للفراغ الدستوري مع توسّع المواجهات العسكرية في البلاد. مهمة براون ولقاءاته في لبنان اتاحت لمخيلة بعض السياسيين تظهير سيناريوهات تصل الى حدّ ترحيل المسيحيين، لا الى اميركا حيث قد يكون لبراون نفوذ، بل الى كندا. اما «مؤامرة كيسنجر»، الذي ترك صاحبها الادارة الاميركية منذ اربعة عقود، فلا تزال، بنظر البعض، حيّة ترزق. موفد رئاسي اميركي آخر، فيليب حبيب، شاءت الصدف ان يكون من اصول لبنانية. هذا الديبلوماسي المخضرم اتى الى لبنان بمهمة احتواء «ازمة الصواريخ» بين سوريا واسرائيل في 1981 وعاد بعد عام بسبب الاجتياح الاسرائيلي. اعطى السفير حبيب اهتماما خاصا بلبنان، يتجاوز مسؤوليته كممثل لواشنطن، وخرج بانطباع سيئ عن المسؤولين اللبنانيين الذين «ضلّلوه»، حسب ما قال لي بتعابير غير ديبلوماسية عندما التقيته في منتصف الثمانينيات في سياق اعدادي لاطروحة جامعية.
اما ولبنان الآن في خضمّ ازمة رئاسية جديدة، فلم يبق من المعادلة المعهودة شيء يذكر. المحيط الاقليمي تغيّر والدول الكبرى تواجه عدوا مشتركا يتمثل بالارهاب المعولم. روسيا دخلت الحرب في سوريا واصطدمت بتركيا. انقرة تحارب الاكراد وتدعم المعارضة السورية، بينما طهران تدعم النظام وتسير باتجاه تطبيع علاقاتها مع الدول الكبرى. «عاصفة الحزم» في اليمن ووجهت بعزم شديد. وفي العراق وليبيا نزاعات مسلحة حول السلطة والأمن والنفط. كما ان التحالفات السياسية تبدلت في لبنان منذ الانسحاب السوري في 2005 ولم تعد البلاد منذ زمن ساحة للصراعات الاقليمية، خلافا للوظائف التي كانت تحتكرها الساحة اللبنانية في مراحل سابقة. المتنفس لهذه النزاعات تؤمنه اليوم ازمات المنطقة وحروبها.
وعلى رغم هذه التحولات الكبرى في لبنان وخصوصا في المحيط الاقليمي وفي السياسة الدولية في المنطقة، لا سيما تجاه طهران وأنقرة، ثمة من يظن ان حسابات الرئاسة اللبنانية لا تزال اسيرة حقبات ولّت: المتصرفية والانتداب والوصاية. الا ان الثابت في زمن العواصف مشروع محاصصة النفوذ والمال ومصالح «الكارتل» الداخلي على حساب الدولة ومؤسساتها بعدما اختلطت روائح النفايات بروائح الصفقات.