نشتاق اليوم الى العاصمة، الى وسط بيروت أمّ الدنيا، الى العاصمة التي ملأت العالم وشغلت الناس قبل أن تتحوّل محميّة للأغنياء وقطعةً مصطنعة مجرّدة من الروح. وسط العاصمة بيروت التي اغتيلت شخصيتها الفريدة بعد تحويلها كياناً مصطنعاً لإرضاء فئة محدّدة من الزبائن.
مَن له الحق في تحديد ما يجوز وما لا يجوز في وسط العاصمة التي من المفترض أن تكون نبض الوطن كله، تعكسه، تمثله وتختصره. أين نحن من بيروت قبل الحرب، أين نحن من روحها، من حيويّتها واكتظاظها الدائم؟ أين نحن من شعور كلّ مواطن أنها تُمثّله، تحتضنه؟ أين بيروت ما قبل سوليدير، وما زلنا نرى أناساً يتّهمون كلَّ مَن يرفض فصلَ الوسط التجاري عن باقي لبنان بالحاقد على الوسط.
نأمل أن تكون عبارة «أبو رخوصة» زلة لسان، ولكن اليست هذه العقلية هي اعتقدت أنّ الراقي هو غالي الثمن، وأنه لا يجوز افتتاح محال للزهور، بائعي جرائد، للمناقيش، محال لبائعي العصير، سندويشات البرج… في وسطنا العظيم.
أليست هي العقلية ذاتها التي اعتقدت أنّ السواح يبحثون عن مثال لمدينة تُشبه مراكز التسوّق الفخمة، في حين أنّ ما يبحث عنه السياح هو مدينة نابضة بالروح، بالناس من كلّ المناطق، بالحركة الطبيعية غير المصطنَعة، بمدينة لها تاريخ، وليس لمركز تسوّق موجود في كلّ زاوية في العالم. بيروت ما قبل سوليدير كانت تضمّ آلاف التجار، وليس العشرات منهم، وكانت مركز تسوّق عالمياً للجميع.
بيروت العاصمة التي لا تنام كانت مقصداً لكلّ لبناني وسائح، كانت الأسواق جميلة وتفتح يديها للناس من كلّ الطوائف والمستويات الاجتماعية، قبل أن يتمّ فرز الاسواق طائفياً.
إنّ أخطر ما يحدث اليوم هو استعادة أحاديث الطبقية وتقسيم المجتمع على أساس الغنى أو وربط الرقي والارتقاء بالميسورين. كلام لا يختلف أبداً عن كلام مَن تمَّ وصفهم بالدجالين الاقتصاديين.
والمحزن أنّ هذا التصريح لا يُعبّر في الواقع عمّا تؤمن به الهيئات الاقتصادية وتُمثله، فالهيئات تؤمن بمجتمع منتج وتعميم الغنى على الجميع وليس تعميم الفقر، وتؤمن بأنّ المجتمع يجب أن يُقدّم الفرص اللازمة لتمكين أيّ كان من تحقيق الثروة، عبر مكافأة الإبداع والعمل الجاد والنشاط والانتاج، لا الثروات المبنية على السرقات والاحتكارات والصفقات. الهيئات الاقتصادية تضمّ أشخاصاً صنعوا أنفسهم بعصامية، وبذلوا عرقاً وجهداً لكسب ما يكسبوه، عبر السهر الدائم والتعب.
إلّا أنّ تصريحات أمس وما قبلها من فكرة منع التظاهر في منطقة سوليدير وكأنّها معزولة عن لبنان، فهل نمنع التظاهر في سوليدير ونسمح به في الاشرفية والضاحية والطريق الجديدة مثلاً؟ كلّ هذه الافكار شوّهت الصورة، وبات يُخيَّل للمتابع أنّ حرباً طبَقية اندلعت في لبنان، تُضاف الى الانقسامات الطائفية والحزبية والمناطقية، فتحوّل كلّ لبنان «ابو رخوصة»، أما وسط البلد فهو الراقي والفاخر الذي نلمِّع صورته لنستقطب به زواراً، نتملقهم لصرف المال لإنقاذنا من ازماتنا الاقتصادية التي وصلنا اليها بسبب تخلّينا عن اقتصادنا المنتج في الدرجة الاولى.
إنّ الاتهامات المتبادَلة بين مَن يُصنّف الناس «أبو رخوصة»، وبين مَن يُصنّف رجال الاعمال بحيتان المال الفاسدين من دون تمييز هي متشابهة الى حدٍّ كبير، وكأنّ هناك خانات لتقويم الناس، الفقير والغني.
ففي قناعة الفريق الأول أنّ الفقير هو حتماً يملك حقداً طَبَقياً يُشوّه معالم الرقي في وسطنا العظيم، وفي قناعات الفريق الثاني أنّ كلّ غني هو فاسد يمتصّ مالَ الشعب بينما كلّ فقير هو شخص شفاف نظيف. ليس الغنى او الفقر هو ما يحدّد الاشخاص، بل الأداء والتاريخ ونظافة الكف والعمل الجاد والمجتهد.
لا زلنا حتى اليوم نصارع طواحين الهواء، نتّهم بعضنا البعض ونُحقّر بعضنا البعض، في ظلّ انحدار متواصل لمركزنا الاقتصادي في العالم. يجب أن تعود الهيئات الاقتصادية لتلعب دورها الحقيقي في دعم الاقتصاد والناس وفي تبنّيها القضايا مكمن الوجع الحقيقي، لتخلع عنها الهيئات الاقتصادية الكفوف البيضاء في مخاطبة الناس ووجعهم ولتعود الى ثقافة الانتاج.