IMLebanon

أبونا سليم.. حَبَّةُ حنْطَة زُرعت في أرْض لبنان  

قلة من الرجال هم هامات عالية ترتفع من بين الناس وتتميز عن سواها بالعقل الراجح والرأي الصائب.. لديها الوعي لمشكلات الماضي والحاضر وتمتلك الرؤية لاستشراف المستقبل الآتي من بعيد فتعمل جاهدة من اجل وضع اسس بنائه خدمة للانسان والوطن. من هؤلاء الرجال الكبار المثلث الرحمة المطران سليم الغزال، بل ابونا سليم، وهو اللقب الأحب على قلبه وقلبي عندما كنت تلميذاً في ثانوية الزعتري في صيدا التي اطلقت الحوار الاسلامي المسيحي بين التلامذة بمبادرة من المربي الجليل الاستاذ مصطفى الزعتري والأب سليم غزال.

ولد الأب سليم في بلدة مشغرة بالبقاع الغربي في 7 تموز 1931 وعرف معنى العيش المشترك في بلدته من خلال العلاقات الاخوية والانسانية مع المسلمين الذي جمعته معهم القيم الانسانية والانتماء الى لبنان الوطن والرسالة. ومن مدرسة الحياة في مشغرة انتقل الاب سليم الى مدرسته الروحية في الرهبانية المخلصية فنهل من ينابيع المسيحية وتعاليمها علم اللاهوت المسيحي فكان له النبراس الذي انار له طريق المحبة مع الآخر وفي ارساء مداميك العلاقات الاخوية مع المسلمين.

وشاءت «العناية الالهية» كما قال ابونا سليم ان ينتقل الى صيدا عام 1961 بعد تعيينه رسولاً متجولاً في قرى وبلدات رعايا ابرشية صيدا ومرشداً للحركات الشبابية. وكان هذا الرسول المتجول طليعياً في نشاطه الديني وفي حياكة نسيج العلاقات بين الكنيسة ورعيتها وشبيبتها من جهة وبين المسيحيين والمسلمين في صيدا وقرى وبلدات شرق صيدا المجاورة من جهة أخرى.

لقد استشرف ابونا سليم المستقبل وشعر بضرورة التجديد في اسلوب الاتصال والتواصل مع المؤمنين مسيحيين ومسلمين وحتمية استنباط اساليب جديدة في التفكير من اجل الوصول الى قلوبهم وحثهم على ضرورة التقارب والتعاون بين الشركاء في الوطن من اجل تعزيز السلم الأهلي وتمتين ركائز الحوار المسيحي الاسلامي.

واستشرف ابونا سليم من خلال افكاره الطليعية ورؤيته النهضوية وممارسته الكهنوتية التوجهات التحديثية للمجمع الفاتيكاني الثاني الذي افتتحه البابا يوحنا الثالث والعشرون في 11 تشرين الاول 1962 في روما.

وقد ساهم هذا المجمع المسكوني في اطلاق تغييرات تاريخية وريادية في دور ومهمات الكنيسة الكاثوليكية وطرائق عملها في المجتمع المعاصر ونذكر منها استخدام اللغات المحلية بالقداس واعطاء دور ومهام للمؤمنين داخل الكنيسة الى جانب رجال الدين وحرية المعتقد والدين والحوار مع الديانات السماوية.

وهذه التغييرات التحديثية كانت تجسيداً لرؤية وافكار البابا يوحنا الثالث والعشرين التي اوجزها بقوله «اريد ان افتح نافذة الكنيسة حتى نرى ما يحصل في الخارج ويرى العالم ما يحصل عندنا».

ولا بد من الاشارة الى موقف الكنيسة الكاثوليكية المتقدم نحو الديانة الاسلامية في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي تضمنته الوثيقة المجمعية عن «علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية» والتي جاء فيها «تنظر الكنيسة بتقدير الى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السموات والارض..».

وكانت اقوال وافعال الاب سليم تجسيداً لهذه التوجهات الجديدة للكنيسة الكاثوليكية التي ظهرت في اداء رسالته الدينية والوطنية والاجتماعية والتربوية. وخير مثال على ذلك هو ذهاب هذا الراعي الصالح الى ملاقاة الآخرين مسيحيين ومسلمين في المدارس والاحياء في مدينة صيدا وقرى وبلدات شرق صيدا. وقد عايش ابونا سليم وجع الناس مسيحيين ومسلمين وشاركهم ايضاً افراحهم وآلامهم وكان حاملا لصليب قضاياهم ورسولاً ينقل هواجسهم ومعاناتهم الى أهل الحَلّ والعَقْد من اجل ايجاد الحلول الناجعة لها.

كان ابونا سليم يدرك تماماً بان العلاقات الاسلامية – المسيحية ليست وليدة اللحظة ولا ثوباً نرتديه في المناسبات والاحتفالات بل هي علاقات عميقة ومتجذرة في تاريخ صيدا وبلدات وقرى شرق صيدا. وكان الاب سليم يعلم ايضاً بان الصفحات التاريخية والمضيئة لهذه العلاقات تعكس فعلياً وبامانة الاحترام المتبادل والاخوة الصادقة بين المسيحيين والمسلمين. كان الاب سليم واعياً بان مهمته هي متابعة ما بدأه من سبقه في صيدا المطارنة والمفتين في تمتين اواصر الاخوة والمحبة بين المسلمين والمسيحيين. لقد كان الاب سليم، جسداً وروحاً، خميرة هذا الحوار الاخوي والصادق بين المسلمين والمسيحيين. ولقد وجد في سماحة المفتي الراحل محمد سليم جلال الدين الاخ الوفي والرفيق الدائم في مسيرة إعادة بناء الثقة بين المسلمين والمسيحيين وتسهيل عودة المهجرين المسيحيين الى بلدات وقرى شرق صيدا واقليم الخروب بعد الحرب العبثية سنة 1985.

لقد كانت المحبة (agapé) النبراس الذي انار طريق الأب سليم في اداء رسالته المسيحية والرعوية والانسانية والمدماك الاساسي لعلاقته مع اخوته المسلمين. فالمحبة للاب سليم كانت مفتاح دخوله الى قلوب اللبنانيين جميعاً والركيزة الاساسية من اجل انجاح التلاقي مع الآخر وكان يردد دائماً: «يَا أَبنائي، لاَ تكُنْ مَحَبَّتُنا بِالْكَلاَمِ اوَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ.» (رسالة يوحنا الرسول الاولى 3: 18)

هكذا كان مسار ونهج الاب سليم في حياته الكنسية والاجتماعية وفي الحوار الاسلامي- المسيحي قبل الانتقال الى الحياة الابدية وملاقاة من احب وعاش ايمانه من أجله.. واليوم نستذكر ابونا سليم الغائب الحاضر بيننا.. ونقول له في عليائه كم نحن بحاجة الى حكمة اقوالك الايمانية وافعالك المسيحية من اجل بناء الانسان اللبناني والمواطن..

واخيراً، كم نحن بحاجة اليوم في لبنان الى رُسل ايمان ومحبة من امثال الاب سليم الذي كان في حياته الكهنوتية مثل حَبَّةِ الخَرْدَل لمتابعة مسيرته المسيحية، الوطنية والانسانية وتكون مهمتهم الاساسية تبديد ديجور الطائفية المقيتة التي بدأت تدخل الوهن الى جسد لبنان الوطن والرسالة وتهدد وجوده وكيانه.

(*) مدير سابق لكلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية