داخلياً، أقرب طريق للإسراع في التشكيل هو التوافق على اتخاذ التركيبة الحكومية القائمة بعد التسوية الرئاسية، إطاراً للبحث في تركيبة التشكيلة الجديدة. بَيْد أنك إذا طرحت نقطة الارتكاز هذه، فسيُطرح السؤال عن أثر نتائج الانتخابات الاخيرة على هذه التشكيلة؟ وهنا لا بد من المصارحة. إما أن هذه الانتخابات لم تبدّل التوازنات المفترضة في الحكومة العتيدة، وإما أن المؤشرات المختلفة التي حملتها معها نتائج هذه الانتخابات لا يمكن أن تُصاغ جميعها في تشكيلة حكومية إلا باتخاذ الحكومة السابقة كصيغة تُحاكى ويجري الانطلاق منها، مع إضافة تعديلات عليها.
الشيء الأوضح في هذا المجال أنه لا يمكن التأليف بشكل ميسّر بالارتكاز على نتائج الانتخابات فقط، ولا غنى عن الإحالة على نموذج التوازنات الحكومية القائم بعد التسوية، كمادة أولية لعملية صياغة الحكومة العتيدة. لأنه إذا ارتكزنا الى نتائج انتخابات يقول فيها كل فريق إنه رابح، من دون الاستعانة بالنموذج التسوَوي القائم، فهذا من شأنه أن يجعل الاتصالات الساعية إلى تشكيل حكومة في أمد معقود من دون إطار مساعد ومؤاتٍ لها.
إقليمياً وداخلياً، ليس هناك ما يمنع التأليف في أمد معقول. التقاطع على استمرار التهدئة والحلول التبريدية للمسائل اللبنانية ما زال يفرض نفسه كمعادلة أساسية. لا يمكن التعامل مع هذا الواقع في نفس الوقت على أنه ثابت ودائم وشامل. الإسراع في التأليف أفضل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه، في المطلق، ليس هناك ما هو مضمون في الإقليم. مستجدّات الملف النووي والأخذ والردّ بين طهران وواشنطن تتابع أول بأول، وحتى الساعة لا يمكن الجزم بالمسار الاجمالي الذي تسير إليه الامور.
بالتوازي، متابعة النزاع الحدودي جنوباً، سواء في ما تعلّق بالحدود البرية او الحدود البحرية وحقول التنقيب عن النفط والغاز، يُفترض أن تظل في رأس الأولويات في هذه الفترة التي تتأرجح فيها حسابات الحرب والسلم في المنطقة، وتريد فيها حكومة بنيامين نتنياهو أن تستثمر لحظة “التطابق المطلق” بينها وبين إدارة دونالد ترامب إلى آخر مدى.
بين الداخلي والخارجي، تظهر خارطة العلاقات بين القوى السياسية مجموعة من المفارقات. من جهة، الفترة التصادمية العاتية بين مشروعَين ائتلافيَّين شاملين في البلد، 8 و14 صارت وراءنا. ومن جهة ثانية، لم تختفِ تماماً خلفية 8 و14 في النفوس والأذهان وذاكرة الناس، كما لو أن هذه الثنائية لم تزل “بنية جوفية للاستقطاب”، على الرغم من تفلّت الحياة السياسية وصراع الأوزان والأحجام والمنافع منها. بالتوازي، فإن المشهد الأساسي الذي قُدِّم على أنه تجاوُز لثنائية 8 و14، أي مشهد التقارب شبه التحالفي بين التيار “الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، لم يعد راهناً هو أيضاً. لكن، بالمعطى العام، تراجعت الأشكال التصادمية للإشكال السياسي في السنوات الأخيرة، لصالح رواج “الحزازيات” والحساسيات الزائدة والفائضة على بعضها البعض. هكذا حساسيات تُشربك الأمور أمام فاعلية التشكيل الحكومي، لكنها لا يمكن أن تضع عراقيل منهجية.
يوحي كثير من هذه الحزازيات والحساسيات بأن الحاجة إلى النضج السياسي هي حاجة ماسّة في البلد. بعض هذه الحزازيات يُعبّر عن تنافس وتزاحم طبيعيَّين ومبرَّرين جداً في السياسة. لكنّ جانباً آخر من الحزازيات يُبرزها كتوترات مفتعلة، قائمة في غياب النقاش على قضايا الخلاف الأساسية بين الأطراف اللبنانية وحول المسارات الواجب انتهاجها إذا ما أُريدَ إطلاق عجلة الإصلاح. لا عراقيل موضوعية أمام التشكيل، لكنّ ثمة قدراً غير قليل من التخبّط السياسي في البلد.