IMLebanon

المساءلة والمحاسبة، ليبقى لبنان

أنتمي إلى جيلٍ وعى على أخبار تكبيل الجيش في كلِّ شيء، وحملَ في مستقبله كل التداعيات: كبحه عن الدفاع في وجه العدو الإسرائيلي، منعه في 1969 و1973 من إكمال المعركة ضد المنظمات الفلسطينية المسلحة، منع العسكري من الخروج من الثكنة بالبزّة العسكرية عشية الحرب، وباختصار القضاء على الحد الأدنى من السيادة وهيبة الدولة.

وارتبط عجزُ السلطة السياسية والدولة الفاشلة عضوياً بإخفاء الحقائق وتشويهها وبلفلفة كل شيء، من دون أي تميّز عن كل الدول التسلطية والفاشلة والمجتمعات التي تضع التكاذب في أساس العلاقات بين مكوناتها. لم نعرف، مثلاً، ماذا حصل في صفقة صواريخ «كروتال» للدفاع الجوي ولماذا لُفْلِفت، وحسابات «اتفاق القاهرة»، وما هي أثمان إيقاف هجوم الجيش على المدينة الرياضية عام 1973، وما هي خلفيات انهيار الليرة في الثمانينيات، وكل تداعيات كواليس الحرب من تحالفات «أمراء الحرب وتجار الهيكل»، على ما كتب المؤرخ الدكتور كمال ديب.

ومن إشارات فشل المجتمع اللبناني وتطويعه، أن يُستَكْمل هذا المسار ببناء دولة الطائف على أساس مشاركة قوى الحرب ودفن أي محاولة للمساءلة والمحاسبة، وحتى الاكتفاء بمعرفة حقيقة جرائم الحرب كما يُفتَرض في أيّ مصالحة وطنية. وبقيت تحركات أهالي المعتقلين والمُختفين الصرخة الوحيدة في برية هذا الوطن والعلامة الأخيرة في انتفاضة مجتمع ضد جلاديه ومسؤولياتهم.

وإذا كانت للحرب ولتركيبة المجتمع اللبناني التعددية والتسويات أعذارُها الدائمة لجهة استبعاد المساءلة والمحاسبة، على اعتبار أنَّ «جميعهم» قتلوا وسرقوا وتعاونوا مع قوى خارجية، فهذه الحجة لا تقلي «عجة» ما بقي متواصلاً في عهود الوصاية ورؤساء الضعف والعجز والخشب، وما قالوا عنه إنه «سلم أهلي». تظهر إلى الضوء قضية أو فضيحة أو تنشب معركة ما، لكن لا تلبث أنْ تختفي بسحر ساحرِ الصفقاتِ السياسية، والمجتمع يراقب ثم يتابع سيره كأن قدَرنا أن نبقى نُقتل ونُسحَل ولا يُترك لنا أقله حق الاعتراض على من قتلنا، سواء في الأمن أو في مقتلة الفساد وتداعياته.

انتهت «ثورة الجياع» مع أنصار الشيخ صبحي الطفيلي في عام 1997 في عين بورضاي إلى اشتباكاتٍ مع الجيش وسقطَ شهداء وقتلى وأحيلَت القضية على المجلس العدلي، من دون أنْ نعرف حقيقة الأمور، وبقي الرأس المدبِّر مجهولاً حتى الساعة. وحصلت «المواجهة الكبرى» عشية انسحاب الجيش السوري وبعده، وتداخلت مع مصالح الدول ففرضت محكمةً دولية ولا تزال الحقيقة غائبة. وفي مواجهات نهر البارد قُضي على الجميع إلا «الساحر» شاكر العبسي الذي «اختفى»، من دون أن نعرف حتى الساعة حقيقة من صنعَ لغم التنظيم الضبابي «فتح الإسلام»، ومن دعمه ومن موّله ومن استغلّه، ولا تزال روح فرانسوا الحاج وشهداء الجيش اللبناني من عليائهم شاهدةً على انحطاط مواقعنا وتقاعس سياسيينا، لا بل تواطئهم في منعِنا من الحقيقة.

لكن نحن اليوم في عهد الرئيس الساهر والضامن العماد ميشال عون. رئيسٌ قوي أنتجته قوته الذاتية وإرادة بيئته قبل أيِّ شيءٍ آخر. في هذا العهد، ستكون معرفة الحقيقة والمساءلة في قضية العسكريين المخطوفين تحديداً، بدعمٍ شعبي وإعلامي، تأكيداً للتغيير واستكمالاً له، وإشارةً قوية إلى أن مشهد سقوط الشهداء ورفع النعوش بسبب ارتهان أفرقاء سياسيين وتهافت مسؤولين على تقديم أوراق اعتماد سبيلاً لبلوغ السلطة، ليس قدر اللبنانيين، ولا قدر جيشهم.