إعتماد النكايات وليس تبادل التنازلات يوصل الجميع إلى الدرجة الأخيرة من السلم
الكباش السياسي على الحصص ما زال يشد الخناق على الحكومة ويمنع ولادتها
لبنان تلقى أكثر من نصيحة دولية للإستعجال في التأليف وتجنب الرياح الإقليمية العاتية
مع كل يوم يمر ويُحكى فيه عن إمكانية حصول انفراجات على صعيد تأليف الحكومة، نجد على أرض الواقع ان العكس صحيح، فالكباش السياسي على الحصص في الجنة الحكومية ما زال يشد الخناق على عملية التأليف، يقابله وقوع الرئيس المكلف في حيرة حيال تمترس كل فريق وراء مطالبه والأسباب الكامنة وراء رفض البعض التراجع قيد أنملة عن هذه المطالب، علماً ان الرئيس المكلف يعرف من خلال تجارب سابقة انه عندما تصل الأمور إلى الحائط المسدود، وعندما يصل كل الأفرقاء إلى الدرجة الأخيرة من السلم يُبادر هؤلاء إلى اعتماد قاعدة تبادل التنازلات، غير ان هذا التوجه ما زال غائباً حتى هذه اللحظة وبدل اعتماد قاعدة التنازلات، فإن القوى السياسية تذهب باتجاه ابتكار قاعدة جديدة هي قاعدة النكايات، وهذه القاعدة بالطبع هي قاعدة يصعب حلها في ظل ظرف سياسي معقد يعيشه لبنان منذ مُـدّة طويلة.
أمام هذا الواقع فإن كل ما يشاع عن إمكانية ولادة الحكومة قبل عطلة عيد انتقال السيدة العذراء أو عيد الأضحى المبارك لا يعدو كونه محاولة يائسة من قبل بعض المعنيين في ضخ جرعة تفاؤل، علماً ان هؤلاء أنفسهم يُدركون كامل الادراك أن هذا النوع من التحايل السياسي لم يعد ينطلي على عامة النّاس الذين بلغوا الوعي الكافي الذي يجعلهم يقرأون مسار الأحداث بشكل جيد، لا بل انهم في بعض الأحيان يتفوقون على بعض السياسيين في القراءة الصحيحة لمسار الأحداث وتحليل المستجدات مما يجعلهم في منأى عن لعبة الاستغباء التي يتقنها أهل السياسة بشكل جيد.
لقد عاش لبنان اوضاعاً مماثلة لعملية تأليف الحكومة وفي كل مرّة كانت الكلمة الجامعة على لسان كل اللبنانيين بأن عملية ولادة الحكومة تنتظر كلمة السر من الخارج، فهل هذه المرة كلمة السر لم تأت إلى المعنيين أم هي في طريقها إليهم؟
ان المتابع لمسار الأحداث على المستويين الإقليمي والدولي يُدرك جيدا أن لبنان غير موضوع هذه الأيام لا على الأجندة الإقليمية ولا كذلك على الأجندة الدولية، فاهتمامات الخارج في امكنة أخرى: في اليمن وسوريا والعراق وتركيا، وفي إيران وفي أماكن أخرى ايضا، وبالتالي فإن عملية تأليف حكومة في هذا البلد الذي اسمه لبنان في مراتب متأخرة جدا من اهتمامات الدول التي يعرف عنها بأنها دول معنية بالملف اللبناني، وبالتالي فإن حصر أسباب الإخفاق في التأليف بالعامل الإقليمي غير صحيح. من الممكن ان يكون للعامل الإقليمي أو الدولي بعض جوانب التأثير على الواقع السياسي اللبناني، الا ان هذه المرة تأثيره غير فعّال إلى درجة تمكنه من تعطيل التأليف، وهذا يوصلنا إلى التشديد بأن القسم الأكبر من التعطيل يعود سببه إلى الداخل اللبناني حيث يحاول البعض رسم مسار ومصير مستقبله السياسي وحضوره في المشهد اللبناني على هذه الحكومة التي بلا شك أو ريب سيكون عمرها طويلا وربما يكون إلى نهاية ولاية رئيس الجمهورية، وهذا الأمر يجعل البعض يخوض معركة التأليف على انها معركة حياة أو موت في المعطى السياسي وهذا أبرز ما يعقد أمر التأليف ويجعل الرئيس المكلف يذهب في رحلة البحث عن حكومته الثانية في هذا العهد وسط حقول من الألغام السياسية ذات الصواعق المعقدة والعصية على الإبطال.
ان وصول غالبية الأطراف المعنية إلى الدرجة الأخيرة من السلم جعل اللجوء إلى طلب مساعدة الرئيس نبيه برّي للحل امراً حتمياً لا بدّ منه، صحيح ان الرئيس برّي معروف عنه مهارته بتدوير الزوايا وإخراج ارانب الحل من جيبه، الا انه لا يملك العصا السحرية التي تمكنه من احداث متغيرات مطلوبة في العقلية السياسية التي يتعاطي بها البعض في عملية التأليف، وهذا ما يجعل تحركه ايضا صعباً ومعقداً أكثر من السابق في ظروف مماثلة، فالرئيس برّي نفسه يجاهر القول بأنه لا يعرف الأسباب الكامنة وراء الابطاء الحاصل في عملية التأليف في ظل ظروف إقليمية ودولية خطيرة، وفي ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية اصعب، وهو اسدى أكثر من نصيحة للمعنيين بأن استعجلوا عملية التأليف قبل فوات الأوان، فلبنان يقف على قاب قوسين أو أدنى من عتبة الدخول في أزمة اقتصادية ربما تكون قاتلة، وسط صفر في الإنتاج والنمو يقابله ارتفاع هائل في منسوب التضخم والمديونية التي تجاوزت ربما عتبة المائة مليار دولار، وهاجس الخوف هذا ليس موجوداً عند الرئيس برّي وحده، بل عند مختلف القوى السياسية وكذلك عند البنك الدولي وبعض أصدقاء لبنان الذين يواظبون على إسداء النصح للبنانيين بأن رتبوا بيتكم الداخلي قبل وصول رياح المنطقة العاتية إليه.
كل هذه المخاوف لم تحدث أي ثغرة في جدار المطالب السياسية التي ما تزال حتى هذه الساعة على حالها، والمعوّل الآن هو على إمكانية ان يقوم الرئيس المكلف بجولة جديدة يؤمل منها ان تكون الأخيرة في محاولة لتدوير الزوايا وانتشال الحكومة العتيدة من قعر بئر التجاذبات السياسية التي تشتد يوماً بعد يوم، مما يجعل مسألة حل العقدة الدرزية وكذلك المسيحية امراً شبه مستحيل قياساً بالمواقف المعلنة على هاتين الجبهتين والتي كان آخرها للوزير طلال أرسلان الذي رفض محاولة حل العقدة الدرزية من خلال توزير نجل النائب أنور الخليل بناء على اقتراح تقدّم به الرئيس برّي، وكذلك من خلال الموقف العالي الذي أعلنه النائب السياسي الياس بوصعب من ان التيار الوطني الحر لن يعطي احدا من حصته الوزارية في دلالة واضحة على استمرار التوتر على خط «التيار» – «القوات اللبنانية» رغم كل المحاولات الجارية لتبريد هذا التوتر وإزالته.