لا يخفي كثر من الديبلوماسيين المعتمدين في بيروت قلقهم من اهمال اركان السلطة وتجاهلهم حجم العتب الدولي وسيل الملاحظات التي خرجت عن كل مألوف في التخاطب بين الدول وتوصيف العلاقات في ما بينها. وإذ لا ينتظرون جواباً من احد، فهم يدركون حجم الازمة وتردداتها الخطيرة على لبنان الدولة والكيان والشعب بعدما ملّوا الاستماع الى شكاوى المسؤولين والاتهامات المتبادلة. وعليه، ما الذي يقود الى هذه القراءة؟
يلتقي كثر من الديبلوماسيين المعتمدين في بيروت وعدد كبير من القيادات اللبنانية السياسية والحزبية والروحية في توصيفهم وتقديرهم لما يجري في لبنان الى درجة التطابق الكلي في مرحلة هي الاخطر من حياة لبنان واللبنانيين. وهو ما كشفت عنه محاضر الجلسات التي جمعت في الايام القليلة الماضية عدداً من السفراء المعنيين بالازمة اللبنانية والأكثر اهتماماً بما يجري، سواء من الذين يلعبون دور الوساطة بطريقة مباشرة او غير مباشرة او لجهة التنسيق القائم بين مجموعة من السفراء العرب والغربيين.
ففي لقاء مكاشفة عقد بين احد السفراء الغربيين وقيادي لبناني، عبّر الديبلوماسي عن حجم كبير من القلق إزاء ما هو متوقع من تحركات شعبية رافضة لما آل اليه الوضع في لبنان من دون ان يستبعد احتمال الوصول الى مرحلة العصيان المدني. وهو يخشى الوصول الى مرحلة تفقد فيها السيطرة على الوضع القائم في البلاد، خصوصا انّ التحركات لن تبقى محصورة ببعض المواقع التقليدية التي باتت تشكل مواقع رمزية تحيي في ذاكرة اللبنانيين كل ما رافق انتفاضة 17 تشرين 2019، وقد بلغت التحضيرات مرحلة متقدمة توحي بإمكان وصولها الى مناطق حساسة قد تستفز بعض القوى السياسية والحزبية في اكثر من مدينة وعلى اكثر من طريق.
لا تقف الملاحظات عند هذه المعطيات الامنية، ففي جعبة الديبلوماسيين المعتمدين في لبنان معلومات اكثر دقة تتحدث عن حجم الأزمة النقدية والمالية والتي قد تتطور الى ما لا يتوقعه اي من اللبنانيين بعدما تحدثت المعلومات عن احتمال حصول ما هو أسوا مما هو قائم حتى اليوم. وان كان ذلك لم يعد سراً، فإنّ كل المعطيات تقود الى مثل هذه التوقعات التي يترقبها اللبنانيون مع كل صباح في ظل الفشل المتمادي بإيجاد حل لأي من المشكلات التي يعانيها لبنان، ووسط غياب مطلق للسلطة القادرة على تطبيق اي من القرارات التي اتخذت في اكثر من ملف اقتصادي واجتماعي واداري ومالي عدا عن المخاطر الناجمة من احتمال فقدان الحاجات الحيوية للمواطنين، كمثل تلك التي تهدد قطاع الطاقة والكهرباء والمحروقات عدا عن الغلاء الذي بلغه سعر رغيف الخبز وفقدان المواد الغذائية المدعومة فضلاً عن الخدمات الطبية والاجتماعية، نظراً لكلفتها العالية نتيجة انهيار سعر العملة الوطنية وفقدان الموارد المالية التي تحتاجها الدولة لتسيير امورها الملحة.
لا يتوقف الحديث عند هذه المعطيات، ففي التقارير الديبلوماسية التي رفعها عدد من السفراء الى بلدانهم حديث مُتنام عن حجم الخلافات التي حالت دون الوصول الى اي محطة يمكن ان تلجم التدهور القائم في البلاد. فالمؤسسات مشتتة، واصحاب القرار بلغوا مرحلة متقدمة من القطيعة في ما بينهم بنحو يُنذر بما هو أسوأ. فإلى ما جاءت به رسالة رئيس حكومة تصريف الاعمال الدكتور حسان دياب السبت الماضي من تهديد بالاعتكاف لا ينم عن حجم الفشل في إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها بمقدار ما ينم عن الشلل المحتمل في المؤسسات والسلطات الرسمية. وهو أمر يُنذر باصطفاف جديد بين اهل السلطة أنفسهم، ومن خارج ما هو قائم بين موالاة ومعارضة. فقد أدى اختلاط المواقف التي حملتها الاتهامات المتبادلة الى بناء أحلاف جديدة عبّرت عنها حركات ميدانية في الشوارع المتبادلة، كما في المواقف السياسية المواكبة لها. وهو ما ينذر بوضع غير مسبوق لا تخفيه السيناريوهات السلبية المتداولة.
والأخطر، تقول المعلومات المتداولة، انّ الاصطفاف الجديد الذي يفرز اهل السلطة انفسهم قد يقود الى مواقف وإجراءات متدحرجة لا يمكن تقدير نتائجها من اليوم. فمتى وقع الخلاف بين السلطات الرئيسية لا يمكن تقدير النتائج المترتبة عليه. وفقدان الحد الأدنى من التنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مثلاً، يُنذر بكثير ممّا لا تتحمله البلاد، فكيف إذا كان البعض منها، وخصوصا السلطة التنفيذية، يمر في وضع تصريف الاعمال ضمن نطاقه الضيق، والذي لا يسهّل الوصول الى اتخاذ أي قرار يمكن ان يشكل نافذة لحل ايّ من المشكلات القائمة، وهي لم تتمكن من اتخاذه عندما كانت تتمتع بكل صلاحياتها الدستورية وقبل دخولها مرحلة الشلل الحالية.
قد يكون إعطاء هذه الصورة السلبية لما هو قائم اسباب ودوافع كثيرة لا تحتاج الى شرح مفصّل، ولكن ما يتوقعه السفراء الاجانب يكمن في الفشل في توليد حكومة جديدة ينادي بها المجتمع الدولي بالمواصفات التي سبق ان اشارت اليها المبادرة الفرنسية وتلك المماثلة التي بقيت من دون ان تأخذ شكل ومدى الفرنسية منها. وهو امر تسبب بقراءات اكثر خطورة، فغياب المساعي المبذولة لهذه الغاية أو تجميدها، معطوفة على حجم المخاطر المترتبة على «الثورة الشعبية» يُنذر بكثير مما هو متوقع في الايام المقبلة.
ومن دون التوسع في ما هو مرتقب، لعل أخطر ما هو متوقع يتصل ببعض السيناريوهات التي تتحدث عنها رغبات البعض في أن يقدم الجيش اللبناني على فض الاعتصامات وفتح الطرق بالقوة. وهو ما لم تتخذه قيادة الجيش بعد في وضوح وصراحة، مخافة ان تؤدي المواجهات الى ما لا تحمد عقباه، والعودة الى كلام قائد الجيش العماد جوزف عون امس تُظهِر أنه كاف وواضح. وماذا لو اتخذت قيادة «حزب الله» قرارا بفتح الطرق الى الجنوب وفي اتجاه البقاع بالقوة، إن بقيت الطرق مقفلة في الايام المقبلة بالطريقة التي رسم لها اكثر من سيناريو سابق، وقد أبلغ ذلك الى اكثر من مرجعية امنية وسياسية وحزبية؟ وهل يمكن ان يؤدي ذلك الى صدام مع حلفاء للمقاومة في اكثر من نقطة محتملة؟
قد تكون هذه السيناريوهات هي الاخطر من بين ما هو متوقع، وزاد في الطين بلة، ما انتهى اليه الاجتماع الوزاري – الامني والإقتصادي الذي عقد في قصر بعبدا امس، والذي أقل ما يقال فيه انه جاء في غير زمانه ومكانه- إذا تمّت قراءته قياساً على التوقعات الديبلوماسية السابقة للوضع وطريقة معالجته ـ انه خارج ما هو مطلوب ـ فجميع من تحلّقوا على الطاولة أمس يدركون أولويات خريطة الطريق الى الحل، والتي تبدأ بتشكيل حكومة جديدة من خارج الاصطفاف السياسي والحزبي القائم لتسارع الى إحياء الثقة المطلوبة من الداخل والخارج بوجود سلطة قادرة على قيادة مرحلة الاصلاحات المؤدية الى مرحلة التعافي الاقتصادي والنقدي والاستقرار الامني الهَش المهدّد في اي لحظة. وهو ما يؤدي حتماً الى عقم ما اتخذ من قرارات سيبقى معظمها بلا اهمية ان لم تكن سبباً في اتساع رقعة الشروخ بين المسؤولين. عدا عن انفصالهم التام عن هموم ومشكلات المواطنين وتجاهلهم البالغ لكل النصائح الدولية.