IMLebanon

اتهامات البابا: أين الترجمة العربية؟!

لافت جداً ألا يكون النص الكامل لكلام البابا فرنسيس، أمام «كوريا» الفاتيكان، قد وزع باللغة العربية بعد. قد تكون المسألة تقنية. أو لوجستية. وقد يكون تأخيراً في تواصلنا مع روما، أو في توصل تكنولوجيا المعلومات إلى طريقة أسرع للوصول إلى لغة الضاد وأهلها… قد تكون الأسباب كثيرة ومختلفة. لكن العبرة تظل معبرة، أن ذلك الكلام التاريخي الخطير الشامل والقابل للتعميم، لم نقرأه كاملاً بالعربية بعد.

ثمة ملاحظات منهجية ضرورية، بداية، لفهم أبعاد تلك المطالعة الاتهامية التي أطلقها الثائر الأرجنتيني الجديد، في وجه حاشية حكومته. أولها أن الرجل لم يأت من داخل تلك الحاشية، ولا من الدوائر القريبة منها. بل جاء إليها من خارجها البعيد. هو من قال مساء انتخابه في 13 آذار 2013 أنه آت من آخر أصقاع الأرض. فتاريخياً كان ثمة نوعان من البابوات في روما. الذين ينبثقون من دوائر موظفي «الكوريا الرومانية»، مثل سلسلة البابوات بيوس، وصولاً حتى بولس السادس. والذين يأتون من خارج الإدارة الفاتيكانية. هؤلاء غالباً ما يكونون ثواراً على «نومانكلاتورا» الدولة. هكذا جاء يوحنا الثالث والعشرون من البندقية، بعد أن جيء به ليكون «البابا الصغير»، فإذا به يتحول بابا كبيراً، يقلب الكثير من سلوكيات الكنيسة، ويطوي صفحة المجمع الفاتيكاني الأول المحافظ، ويفتح أبواب الكنيسة على العصر مع مجمعها الثاني. وليصير قديساً، مع آت آخر من خارج «الكوريا»، هو كارول فويتيلا، أو يوحنا بولس الثاني، على يدي «دخيل» ثالث على الحاشية نفسها، هو الأرجنتيني برغوغليو، أو فرنسيس. هكذا لم يشذّ البابا الحالي عن تلك القاعدة. ولم يتأخر عن تجسيدها وتطبيقها. فبعد أقل من عامين على انتخابه، أطلق ثورته في وجه طبقة «الكوريا» الغريب عنها والغريبة عنه.

ثاني الملاحظات في السياق نفسه، أن الرجل آت من أميركا اللاتينية. من تلك الأرض البعيدة، ذات العلاقة التاريخية المفارَقة مع كنيسة روما. منذ أيام الكونكيستادور، و»الاكتشافات» الأوروبية لأرض النار النائية. تلك الاكتشافات التي رافقتها ارتكابات وأخطاء وخطايا، يلتبس فيها دور الكنيسة، ويُحكى – أو يُسكت – كثيراً عن تغطية روما أو فضحها لتلك الحقبة السوداء… إلى زمن لاهوت التحرير ومجمع ميديلين والمناضلين الكنسيين، من غوستافو غوتييريز ابن البيرو، إلى ليوناردو بوف ابن البرازيل، إلى خوان لويس سيغوندو ابن الأوروغواي… جيل كامل من ثوار الإنجيل، الذين لم يمتثلوا يوماً لروما ولم يتماثلوا بها، ولا هي تمثلت بهم وبلاهوتهم وثورات ظلمهم وبؤسهم وفقرهم وحرية يسوع التاريخي… من ذلك التراث اللاهوتي التاريخي والإنساني، يأتي برغوغليو إلى روما. وهو ما يزيد الفوارق والمسافات بينه وبين طبقة موظفي دولته.

ملاحظة منهجية ثالثة واجبة في السياق نفسه، أن البابا الأبيض اليوم، يسوعي. أي أنه ابن الجيش الأسود. ابن مدرسة أغناطيوس دي لويولا القديمة في الكنيسة، قدم التاريخ المذكور. وهي المدرسة التي عرفت في تاريخها حقبات اشتباك وصراع، خفيين أو علنيين، مع روما. حتى أن رهبنة هذا البابا نفسه، تم حلها وحظرها سنة 1773، بضغط من حكام أوروبا. وظلت محظورة كنسياً حتى سقوط نابوليون، فاستعادت شرعيتها سنة 1814. وللمصادفة المعبرة اليوم، أن روسيا وحدها رفضت حظر اليسوعيين يومها. وأن الراهب اليسوعي الأرجنتيني برغوغليو، رفض اتخاذ اسم البابا الذي حلّ رهبنته، كما اقترح عليه بعض إخوته عند انتخابه سنة 2013. بل فضل اسم فرنسيس، راهب الفقر والمحبة برمزيته لأيامه الآتية، على رمزية رد الاعتبار لتاريخ ماضٍ!

تبقى ملاحظة رابعة لفهم اتهامات الرجل لمعاونيه، أن روما منذ فترة طويلة، موضع شائعات وإشاعات. طبعاً بعضها صهيوني المنطلق والهدف. لكن بعضها الآخر من نوع الخل الذي سُقي ليسوع على الصليب، «دوده منه وفيه». تكفي الملفات التي أثيرت في الأعوام الماضية، مما اعترفت به روما، دليلاً على أن شيئاً ما، لا بل أشياء كثيرة، معتلة في قلب المدينة الخالدة.

في ضوء كل هذه، أطلق فرنسيس صرخته، بل ثورته. كانوا قد جاءوا لتهنئته بالميلاد، تلك التهنئة التي تترافق تقليدياً مع خطاب بابوي خشبي، فيه بعض روحانيات مكررة، وبعض تمنيات ونيات لا يتحقق منها شيء. لكن الثائر الأرجنتيني قلب الصفحة والطاولة والتقليد. تماماً مثل معلمه الأول. نسج سوطاً من كلمات، ومضى يجلد سامعيه: مصابون أنتم بخمسة عشر مرضاً. كل واحد منها يكفي ليكون قاتلاً لمسيحيتكم ويسوعكم وكنيستكم ورسالتكم ومؤمنيكم. وراح يعددها بقسوة المحبة وعري الحقيقة: «أن نظن أنفسنا كاملين، العمل الزائد (مع) تجاهل ما هو جوهري، التحجر الفكري والروحي، التكلس في أطر التنظيم والإنتاج حيث لا حرية روح، التنظيم الخاطئ، الخَرَف الروحي، المجد الباطل، العداوة، السكيزوفرينيا الوجودية، الثرثرة، تأليه الرؤساء، اللامبالاة تجاه الآخرين، التعلق بالأشياء المادية، التجميع المَرَضي، الدوائر المغلقة والربح العالمي»…

خمس عشرة علة. زادها الثائر اليسوعي واحدة عن مراحل جلجلة معلمه. ربما ليراها الناس كاملة. هي علل كل دولة، وأمراض كل حاشية، وكوارث كل مؤسسة، ومآسي كل جماعة تحسب نفسها خالية من العيوب، أو تتحصن حيال معاصيها بالصمت المفروض، أو بحصانة الثوب وعُرف «استتروا». هي ثورة فرنسيس على ذاته وعلى حكومته ودولته. فمن يترجمها كاملة إلى العربية؟! والأهم، من يترجمها لغة وثورة، قبل فوات الأوان!