هل وضع النائب وليد جنبلاط إصبعَه على الجرح وأصاب عينَ الحقيقة في تغريدتِه الأخيرة، التي عكس فيها «حالَ التخبّط والضياع وغيابَ الرؤية الواضحة لإدارة الدولة» حتى حول أبسط الأمور؟
تغريدةُ جنبلاط انطلقت من القرار الرئاسي بالاحتفال بالانتصار في ساحة الشهداء ومن ثمّ التراجع عنه بين ليلة وضحاها. وهي بالتأكيد، على ما يقول أحدُ كبار السياسيين، لا تحيط فقط الاحتفال المقرَّر نهاراً والمُلغَى مساءً، بل هي بمفعول رجعي معطوف على الأداء الذي جاءه أهلُ الحلّ والربط منذ بداية العهد الحالي وحتى اليوم.
وجنبلاط في تغريدته هذه، وعلى ما يعتقد السياسي نفسُه، نطق بلسان الشريحة الواسعة جداً من السياسيين وكذلك المواطنين على السواء. خصوصاً وأنّ الشواهد لا تُحصى؛ بدءاً بالقانون الانتخابي والتخبّط الذي اعترى مقاربتهم، مروراً بالتعيينات وقرار إنزالها عن عرش الشفافية والكفاءة الى المحاصصة ونسف آلية التعيين، وصولاً الى الصفقات وأكثرها فضائحيّة صفقة بواخر الكهرباء المحاطة بما يشبه الاستماتة لعقدها وتمريرها خلافاً للقانون، وكذلك الانتخابات النيابية الفرعية وتعطيلها في مخالفة موصوفة وفاضحة للدستور الذي يتغنّون به ليل نهار.
واخيراً وربما ليس آخراً، طرح الانتصار في الجرود قصداً أو عن غير قصد على بساط الالتباسات وإفراغه من محتواه، بالتزامن مع دعوة رئاسية مفاجِئة الى التحقيق في قضية العسكريين الشهداء سرعان ما تمّ توظيفُها لغاياتٍ كيدية وثأريه.
كل تلك الشواهد وغيرها والكلام للسياسي المذكور، تنمّ عن إرباكٍ حقيقي، وكانت لها ارتداداتُها وتداعياتُها على طول المشهد الداخلي وعرضه، وأكثرها خطورةً هي التوظيف السياسي والثأري للدعوة الرئاسية، الذي تجلّى في مسارَعة بعض «أقرباء» تلك الدعوة الى تصويب الاتّهام في اتّجاهٍ معيّن، وإصدار الأحكام المبرَمة على منابر السياسة والإعلام ولعلّ أخطر ما تأتّى عن استباق التحقيق بالاتّهام وإصدار الأحكام، هو تشجيع بعض أهالي العسكريين على هدر دم الرئيس السابق للحكومة تمام سلام والقائد السابق للجيش العماد جان قهوجي فهل هذا هو المُراد؟
واضحٌ أنّ فريق الاتّهام، وكما يلاحظ السياسي نفسُه، يقدّم يومياً دليلاً تلوَ الآخر، على أنّ جلّ ما يريدونه هو أن يزرعوا في أذهان اللبنانيين أنّ سلام وقهوجي هما المسؤولان عن كل ما جرى في 2 آب 2014 وما بعده، متجاوزين حقائق الوقائع الميدانية والعسكرية والمذهبية التي سادت في تلك الفترة، ومتناسين أنّ دمَ العسكريين هُدِر على يد «داعش» و«النصرة»، لكأنهم بهذا المنحى يضربون القتيل بدل أن يضربوا القاتل.
لم يكن في حسبان سلام وقهوجي أن يصلَ البعضُ الى هذا المستوى من الغيظ والنكد والحقد، وأن يبلغَ المنحى التوظيفي الذي يسلكونه الى هذا الحدّ من الاستثمار على دم العسكريين والى هذا الحدّ من الافتراء المتعمَّد عليهما عبر قلب الوقائع والحديث عن وقائع لم تحصل، وكذلك عن «عنتريات» يقدّمها البعض على الشاشات اليوم فيما هذه «العنتريات» لم يكن لها أثر في آب 2014 عند مَن يطلقها اليوم، وتكفي ذاكرة تلك المرحلة للتأكّد من هذا الأمر.
أمر طبيعي وأمام حملةٍ من هذا النوع أن يشعر جان قهوجي بمرارة، ليس فقط لاستهدافِه واتّهامِه ووضعه في مكان أرادوه له، فيما هو ليس فيه بل لم يكن فيه، بل من هذا التوظيف الذي يقتل العسكريين مرتين، ويسيء الى المؤسسة العسكرية ويضرّ بهيبتها ومعنويّاتها.
هناك الكثير الكثير من الكلام ليُقال، وهناك الكثير من الوقائع التي تضع النقاط على الحروف وتُوقف هذا المسلسل العنتري والاستعراضات، وعلى ما يُقال «كل أوان لا يستحي من أوانه»، وأمّا الآن فليس أوْلى عند قهوجي من الانحناء للعسكريين الشهداء وللمؤسسة التي كان يرأسها.
وأما الرئيس سلام فيكاد شعوره بالغضب لا يوصف، وليس مفاجِئاً إن قال في مجالسه «إنّ ما يجري في قضية التحقيق حول عرسال والعسكريين الشهداء والطريقة التي أُثيرت فيها هو العيب بحدّ ذاته، وهو الكيد بحدّ ذاته، وما هكذا يُكافَأ من حمى البلد ووحدتَه والمؤسسة العسكرية ووحدتَها ومعنويّاتِها.
اللومُ لا يقع على الصغار باعتبارهم مجرد أبواق تنفث السمّ، بل اللائمة تقع على الكبار الذين استغلّوا مناسبةً حزينةً يُفترض أنها مناسبة جامعة (تشييع العسكريين في اليرزة) لطرح أمور تفرّق وتزيد الشرخ، الكلام يجب أن يكون مسؤولاً، فأيُّ شعور بالمسؤولية عندما يطلق الكبار شرارةً لحملة هجومية أعادت تعميقَ هوّة الانقسام بين اللبنانيين؟ كما لن يكون مفاجِئاً أن يطلب سلام إجابات على أسئلة كثيرة في جعبته حول كثير من الوقائع، التي تُحوِّل «المتَّهِم» اليوم؟ الى «متَّهَم» وتضعه في القفص».
وعندما يأتي أوانُها يطرحها. ومن حقّ سلام أن يعتقد أنه «رغم الضرر المعنوي الذي لحق به، فليس هو المستهدَف الرئيسي في هذه الحملة بل جان قهوجي، فهم أفصحوا عن ذلك بألسنتهم وهو استهدافٌ ظالم لأنّ الرجل تصرّف بمسؤولية كبرى وقام بواجباته على أكمل وجهٍ ولم يقصّر».
فريقُ الاتّهام مستمرٌّ بحملته، وبطريقة أقلقت مستوياتٍ سياسية مختلفة، وزرعت لديها الخشية من دفع البلد الى منزلقاتٍ خطيرة. ما حدا برئيس المجلس النيابي نبيه برّي الى الدخول علناً على الخطّ ودقّ ناقوس الخطر.
بعض فريق الاتهام، أخذ على بري تدخّله في ما وصفوه «مسألةً لا تعنيه»، واعتبروا دفاعَه عن سلام وقهوجي رسالةً سلبية في اتجاه رئيس الجمهورية. فهل هذا صحيح؟
مقاربةُ هؤلاء لموقف برّي، صُنِّفت بالسطحية، ليس فقط من قِبل الخصوم، بل أيضاً، ممّن يُعتبرون أصدقاء لهم وللعهد، ذلك أنّ حركة برّي ومواقفَه التحذيرية من الدعسات الناقصة، مبنيّةٌ على قراءةٍ دقيقة لمشهد المنطقة بشكل عام، ومن خلاله للمشهد الداخلي وتشخيص لمرحلة جديدة وتحوّلات جذرية من حول لبنان تستوجب قبل كل شيء نزعَ صواعق التوتير السياسي الداخلي، وكذلك تحصين الانتصار بما يتطلّبه وليس بخطوات مواقف وحملات تؤدّي الى انهيار هذا الانتصار في وضح النهار.
ومن هنا تأكيدُه الحثيث على سياسة مدّ اليد، والشراكة الكاملة في ترتيب البيت الداخلي وعدم تخريب أركان هذا البيت بطروحات لا يكون لها إلّا المفعول التصديعي للأسس التي يقوم عليها، وكذلك المسّ بمرتكزات التفاهم الداخلي الذي يجب أن يبقى حتى ولو كان ذلك تحت عنوان المساكنة بالإكراه.
وتبعاً لذلك، فإنّ دفاع برّي عن سلام وقهوجي ليس فقط دفاعاً عن الرجلين لشخصيهما في وجه الحملة التي تُشنّ عليهما، بقدر ما هو دفاع عمّا كانا يمثلانه، ذلك أنّ هذا الهجوم غير المبرّر تترتّب عليه نتائج سلبية، سواءٌ على المستوى السياسي بشكل عام، وقد شهدنا في الآونة الأخيرة استنفاراً سياسياً واستفزازاً لمشاعر فئة معيّنة من اللبنانيين تحت عنوان استهداف موقع مرجعيتهم السياسية والحكومية، أو على المؤسسة العسكرية والإضرار بها وضرب معنوياتها من خلال اتّهامها عبر قائدها السابق بأنها قصّرت أو تلكّأت. في أيّ حال الظلم حرام ولا يجوز تحويل الرجلين الى كبش محرقة ربطاً بوقائع وهميّة وأحكام صادرة من خلف المنابر السياسية والإعلامية فيما الوقائع الحقيقية هي غير ذلك تماماً.
لا يخفي برّي الخلفية التي انطلق منها لدقّ ناقوس الخطر وجَذْب القوى السياسية كلها نحو مدار الموضوعية بعيداً من سياسة التوتير والتشفّي لأنّ نتائج هذا المنحى لن تكون محمودةً، خصوصاً أنّ « كل الناس شايفة وقاشعة» أنّ الفتيل اشتعل من خلفيات شخصية. فأولوية برّي هي توفير كل عناصر الأمان الداخلي السياسي وغير السياسي. وعدم إشغال الداخل بأيّ موترات قد يكون من الصعب احتواء ارتداداتها.
وبالتالي في ظلّ شرارات التوتير التي تظهر، يبقى الهدف الأول هو ملاقاة المشهد الإقليمي الجديد والمنسحبة آثاره حتماً على المشهد الداخلي، بالحدّ الأدنى من القدرة على مواكبة تحوّلاته وتطوّراته، وأول الطريق الى ذلك بتغليب المزاج التوحيدي الداخلي الذي يفتح باب التحصين، على المزاج التوتيري التي يفتح باب التحطيم، وقد عبّر عن هذا المنحى صراحة في خطاب ذكرى الامام موسى الصدر آخر آب الماضي، وأكمله في مواقفه التالية التي وصل بها بالأمس الى طرح جديد يتعلّق بتقصير ولاية المجلس النيابي الحالي وإجراء الانتخابات النيابية حتى في الشتاء المقبل. فهل هذا ممكن؟ وهل الظروف مؤاتية لذلك؟
المطّلعون على بعض خلفية اقتراح بري هذا، يؤكدون أنّ هذا الاقتراح ليس مجرّد دعوة الى تحريك المياه الانتخابية الراكدة، بل أهميته تكمن في أنه يُسكت المشكّكين ويُنزل المجلس النيابي عن منصّة استهدافه على خلفية التمديد. وينطوي على تأكيد متجدّد من قبل رئيس المجلس على أنّ الانتخابات النيابية ستجري وفق القانون الجديد، ويقطع الطريق أمام كل مَن يمني نفسه بأنّ الانتخابات المقبلة ليست مضمونة وستذهب في مهبّ الريح.
وإنّ هذا الاقتراح يشكّل في الوقت عينه فرصة إنقاذية للبلد وأخذه في اتّجاه إعادة إنتاج السلطة فيه عبر الانتخابات، وبالتالي توجيه كل الحواس الداخلية نحو الاستحقاق الانتخابي وعدم التلهّي بصغائر الأمور، وخلافات وتناقضات ومكايدات وطروحات من النوع الذي يعيد تحريك الغرائز، وإحياء الخطاب الأسود الذي يمكن أن يدفع البلد الى حافة الهاوية على ما هو حاصل اليوم، مع بعض الطروحات التي فتحت باب السجال. الّا أنّ العبرة تبقى دائماً في استجابة القوى السياسية الأخرى ففي هذه الحال لا يستطيع برّي أن يصفّق وحده.
وإذا كان التوتير السياسي يشكّل خطراً مهدّداً للاستقرار الداخلي، إنما الخطر الأكبر في رأي بري هو «إسرائيل، فالعدوّ هنا، ومكمن الخطر الحقيقي علينا هنا، ولا أحد يأمن لاحتمالاتها الخطيرة والمفتوحة، خصوصاً أنها لا توفّر فرصةً إلّا وتتحيّنها للانقضاض على هذا البلد، فهل نغمض العين على هذا الخطر وندخل في توترات سياسية ومناكفات فارغة تُصدّعنا من الداخل، أم نحصّن أنفسنا ولو بالحدّ الأدنى من المناعة، وهل أمام اللبنانيين خيارٌ آخر غير ذلك؟