جاء الإنجاز الأمني باستعادة العسكريين المخطوفين ليخرق مساحة القحط السياسي في البلاد. وعلى الرغم ممّا رافقه من ضجيجٍ وتخوينٍ إعلامي وسياسي، فإنّ إلقاءَ الضوء على بعض الحقائق يبقى أمراً أخلاقياً وإنسانياً بالدرجة الأولى. كيف تم تركيب هذه المعادلة؟
على رغم ساعات الفرح التي عاشها اللبنانيون الذين تسمّروا أمام شاشات التفزيون لمتابعة فصول استعادة العسكريين الأَسرى من جبهة «النصرة» كان هناك مَن يسعى الى التشكيك بكلِّ ما رافق هذه المهمة ويصبّ الزيت على النار وكأنّ ما يجري لا يعنيه، فسادت موجة من الضجيج الإعلامي والسياسي على خلفياتٍ محلّية وشخصيّة ومهنيّة تجاهلت الكثير من الحقائق وما تعنيه صفقة من هذا النوع حيث يتنازل فيها طرفاها في مكان ما ليحققا ما يريدانه في مكان آخر.
وكلّ ذلك تزامن مع انصراف القيادات الأمنية الى ترجمة الحبكة الأمنية والعسكرية التي أُنجزت بدقة متناهية لإمرار فصول الصفقة بأدقّ تفاصيلها الأمنية والعسكرية لاستكمال الإنجاز الذي تحقق في أفضل الظروف.
كان كلّ شيء على ما يرام بعدما شارك في إتمام الصفقة من وراء الستار مَن أحيا المبادرة القطرية وشجع على الإسراع للبتّ بها، بعد محطات شهدت خيبات تعطّلت فيها كلّ أشكال لغة التفاوض مع قادة المجموعة المسلّحة على خلفيات سياسية وأخرى مرتبطة بواقع العمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة وسط قناعة شبه شاملة أنّ جبهة «النصرة» لا يمكنها التفريط بأهمية ما لديهم بعدما تحوّل العسكريون أغلى ما تمتلكه من أوراق القوة. ولذلك كانوا حريصين على سلامتهم وخصوصاً في المرحلة التي تلت قتل بعض العسكريين.
فبموجب اتفاق حققته إحدى جولات المفاوضات أقرّت النصرة وتعهّدت بعدم المسّ بحياة الباقين منهم فتعطّلت محاولاتُ خطفهم مراتٍ عدة واضطُرت منذ ذلك الوقت الى حمايتهم وإبعادهم عن مواقع الخطر رغم ما شعروا به في مرات عدة بأنّ الأرض تتزلزل من تحتهم جراء القصف الذي استهدف مركز اختطافهم وفي محيطه كما اعترف أحدُ العائدين من الأسر.
ورغم كلّ ما قيل فقد كشف مرجعٌ أمني مفاوض أنه وعلى رغم اقتناعه بالتزامات الخاطفين بقي يشكك حتى اللحظة الأخيرة باستعادة الجميع أحياءً وبصحّة موفورة ليس لأسباب عسكرية بقدر ما كانت مخاوفه نابعة من الشلل السياسي في البلاد واحتمال أن تقود الخلافات على مختلف الملفات المفتوحة الى إدخال هذه القضية في بازار الخلافات الداخلية، خصوصاً أنّ ما هو مطروح من مفاوضات منذ اللحظة الأولى لم يختلف كثيراً عن بنود الصفقة الأخيرة، إذ في متن كلّ التفاهمات السابقة بنود تتصل بفتح ممراتٍ آمنة لعبور قوافل الإغاثة الى النازحين السوريين الموجودين في المنطقة الفاصلة بين آخر نقاط الجيش اللبناني والمسلَّحين في الجهة السورية المقابلة.
وكما وفي كلّ مرة كان عنصر المال موجوداً بقوة بالإضافة الى الترتيبات الخاصة بالجرحى وطالبي الرعاية الصحّية ودون ضوابط كما حصل هذه المرة حيث أُنيطت هذه المهمة بالجيش اللبناني وبإشرافه مع حقّه بالتمييز بين طالبي هذه الخدمة خصوصاً إذا ثبت أنهم متورّطون في عمليات عسكرية ضدّ الجيش أو في أية عملية إرهابية على أراض لبنانية.
على هذه الخلفيات، يمكن الحديث عن كثير من الإنجازات في متن الصفقة الجديدة ليس أقلّها إجراء عملية التبادل بأقلّ عدد ممكن من الموقوفين في لبنان وعدم شمولها مَن صدرت بحقهم أحكاماً قضائية يستحيل على لبنان – الدولة أن تتجاهلها في أيّة عملية تبادل مهما كان حجمها، وبعدما كانت الشروط السابقة تساوي بين المخطوف اللبناني وعشرات الموقوفين في السجون اللبنانية عدا عن السورية منها.
ومن هذه المنطلقات، كانت ردات فعل المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم تجاه ما تلقاه من إشادات من القريبين والأبعدين، يردّ جهده الى الواجب وبما تعهّد به سابقاً وما أولي من ثقة أهّلته لإدارة المرحلة دون أن يتجاهل أحداً او يبخس من حق أحد.
كان يدرك بقوّة مختلف عناصر المهمة فحيث ما كان للسياسيين دور لم يتجاهل أحداً. وحيث كانت تحتاج الى العسكريين كان قائد الجيش سنداً الى اللحظة التي تمّت فيها عملية التبادل.
وأخيراً تبقى الإشارة الى ردات الفعل السياسية والإعلامية والتي بُنيت على أخطاءٍ وسوء فهم لما رافق العملية في زمن «القحط السياسي» وهو ما يدعو الى إعادة النظر في بعض المواقف والإتهامات.
فهناك مَن رفض أن يوجّه رئيس الحكومة وقادة آخرون شكرهم لقطر دون أن يفهموا أسبابها، الى أن قطع اللواء ابراهيم الشك باليقين فشكر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على دوره موضحاً أنه هو مّن حثّ القطريين على إحياء مبادرتهم. فهل يتراجعون؟