أخطر ما في الأزمة الداخلية الراهنة، دخولها في عنق زجاجة الاستثمار السياسي، وفي حفلة استنزاف للدولة وللانتصار الذي تحقّق في الجرود.
من النتائج الأولى لحفلة الاستنزاف والاستثمار هذه، أنها ذوّبت الانتصار وبدّدت كل الآمال التي عُلّقت عليه، وعلى المرحلة التي فتحها لبلد استُؤصِل الورم الإرهابي من خاصرتيه في «الجردَين» العرسالي وراس بعلبك والقاع، وأنزلته عن عرشه كإنجازٍ كبيرٍ واستثنائي في الزمن الإرهابي الخطير، وحولّته من فرصة لجمع البلد، الى محطة انطلاق لمرحلة سجاليّة مفتوحة، ومزايدات ليس لها ما يبرّرها على الإطلاق.
هذه الحفلة بوجهَيها الاستثماري والاستنزافي، تطرح تساؤلاتٍ لا تُحصى؛ لماذا تمّ اقتحامُ انتصار الجرود بهذه الطريقة؟ وما هي الحكمة من الدعوة الرئاسية الى فتح تحقيقٍ حول العسكريين الشهداء أثناء تشييعهم؟ ولماذا بمجرد أن دعا رئيس الجمهورية ميشال عون الى فتح التحقيق تحرّكت جبهة المزايدين وبوتيرة غير مسبوقة دون أن يُسكِتَها أحد، رغم أنها استبقت التحقيق بإصدار الحكم النهائي على أشخاص أو شخص بعينه؟ هل القصد من التحقيق كشف الحقيقة الشفافة، أم التشفّي والثأر من شخصيات معيّنة لمجرد أنها أصبحت خارج موقع المسؤولية؟
الرئيس عون يقول إنه يتوخّى من دعوته الى التحقيق، كشف الحقيقة وتحديد مَن شارك وتورَّط في خطف العسكريين، وتسبّب في هذا المصير الأسود الذي انتهوا اليه، وليس تبرئة مرتكب واتّهام بريء.
لكن مَن يُعتَبَرون من «أهل البيت»؛ السياسي والعائلي، يصرّحون بشيء آخر، وبدوا من خلال الأحكام المسبَقة التي أطلقوها، وكأنهم يفكّون رموز «شيفرة» الدعوة الرئاسية للتحقيق، ويكشفون عن الهدف المكنون الرامي الى ضبط إيقاع المشهد الداخلي على إلقاء المسؤولية السياسية على رئيس الحكومة السابق تمام سلام، واتّهام القائد السابق للجيش العماد جان قهوجي بالمسؤولية عن دم العسكريين، حتى بدا التحقيقُ أمام «أوركسترا» من لون واحد يجمعها هدفٌ وحيد، ووجدت في الدعوة الى هذا التحقيق فرصةً للثأر بمفعول رجعي؛ ولاسيما حول الاستحقاق الرئاسي وبروز إسم العماد قهوجي كمرشح قوي، وكذلك حول طموحات بعض الضباط التي أخفقت في إيصالهم الى الموقع العسكري الأوّل، وأيضاً حول مطالبة أحدهم للمؤسسة العسكرية في ظلّ القيادة السابقة بمبلغ 400 ألف دولار كبدل إيجار لأحد المقرّات في غدراس كان يشغله أحد القادة الحزبيين!
لا شيءَ واضحاً حتى الآن، وربما تقدِّم سيناريوهات السجال خلال الأيام المقبلة بعض الإجابات. لكنّ الثابت أنّ حفلة الاستنزاف والاستثمار مستمرة، والثابت أيضاً أنها أدّت الى شحن الواقع السياسي وكذلك على مستوى الناس. وأكثر من ذلك شجّعت الإرهابيين على التطاول على الدولة، كما فعل الإرهابي أحمد الأسير حينما أعلن في المحكمة العسكرية أمس، بأنّ محاكمته سياسية وطلب وكلاء الدفاع عنه شهادة رؤساء ووزراء ونواب، متناسين ماذا فعل هذا الإرهابي ضدّ الجيش في عبرا، وكم شهيداً سقط على يده، وكيف توجّه الى مناصريه محرِّضاً لمواجهة الجيش وقوله لهم «خزقوهن»!
الحفلة مستمرة، وفي ظلّ العقلية التي تديرها، يبدو أنّ سقفَها مفتوحٌ على مزايداتٍ أكبر وكلامٍ هجومي في اتجاهاتٍ مختلفة، لكن الى أين سيصل في نهاية الأمر؟ وهل يخدم هذا المنحى الوصول الى تحديد القتلة والمتورّطين والمشاركين في خطف العسكريين وقتلهم؟
الرئيس نبيه بري قرأ المشهد مسبَقاً وحاول توجيهَ البوصلة في الإتّجاه العقلاني، الذي يجنّب الوقوع في دعسات ناقصة لا يتأتّى منها سوى الأثر السلبي على مجمل الواقع الداخلي، ومن هنا جاء بما وصفها كلمة حق، بحقّ الرئيس سلام والعماد قهوجي، وجاء أيضاً بصرخة لتجنيب الواقع السياسي المهتزّ أصلاً، أسباباً إضافية لاهتزازاتٍ أكبر وأوسع، ولترك الجيش وشأنه وإبعاده من الإستهداف، واتّهامه، عبر قيادته السابقة، بأنه قصّر أو تلكّأ، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع من دون استثناء أنه كان ممنوعاً عليه أن يتحرّك ويقوم بأيّ عمل في اتّجاه عرسال، وخصوصاً أنّ الضاغط الأساس في تلك الفترة وعلى الجميع هو الفتنة السنّية الشيعية، وهل ثمّة مَن يتذكّر كيف كانت الحال آنذاك؟
وهل ثمّة مَن يتذكّر المستوى الخطير الذي بلغه الاحتقان في تلك الفترة؟ إنّ ظروف اليوم غير ظروف الأمس، فقط تخيّلوا لو أنّ الجيش في آب 2014، أقدَم على عملٍ ما في عرسال، فهل مَن يستطيع أن يقدّر نتيجة هذا العمل، والكلّ يعلم أنّ الحدود مع عرسال كانت مفتوحةً أمام الإرهابيين وصولاً الى حمص. في أيّ حال، لو أرادوا فتحَ محاضر مجلس الوزراء فأنا أشجّعهم على ذلك، لنرى من خلالها من سيُصاب بالإحراج، ولو شاؤوا فتحَ محاضر حوارات أخرى فلا مانع من ذلك أبداً».
في السياق نفسه تقع مقاربةٌ سياسيةٌ لحفلة الاستنزاف والاستثمار الجارية وفيها:
– الوضع السياسي متعثّر، وثمّة أطراف كثيرة متضرّرة تعمل على إطالة أمد الصراع السياسي وتدفع بكل ما أوتيت من إمكانات لتذكية عناصر الخلاف.
– ما يُخشى منه هو أن تكون الدعوة الى التحقيق مندرجة في السياق الذي درج عليه فريقٌ سياسي احترف الدخولَ في مواجهاتٍ سياسية مجانية، والبحث عن طواحين الهواء والدخول في حرب معها.
– هل إنّ الجيشَ اللبناني كان قادراً على الدخول في معركة عرسال ضد الإرهابيين فيها في العام 2014 وكيف؟ بمعزل عن القرار السياسي الذي لم يكن متوفّراً في ذلك الوقت؟
– بعيداً عن شخص جان قهوجي، ألا يعني التصويب عليه واتّهامه هو تصويب على المؤسسة العسكرية والإضرار بها وبمعنوياتها خصوصاً أن لا فصل بين القيادة والمؤسسة، إذ هما كلٌ متكامل؟ علماً أنّ الجيش قام بكل واجباته في تلك الفترة، ووحده تحمّل عبءَ المسؤولية، وكان الشريك الأساس في منع الفتنة، وخصوصاً بين السنّة والشيعة، التي تعني تدمير البلد كله. هنا ينبغي توجيهُ الشكر له وليس مكافأته بالاتهام.
– من حقّ أهالي العسكريين الشهداء أن يعرفوا مَن قتل أبناءَهم، ومَن تورّط مع القتلة وشارك في الخطف وأمّن التغطية الكاملة للإرهابيين، وأمّن بيئةً حاضنة لهم ولجرائمهم.. وبالتالي فإنّ الطريق الطبيعي للتحقيق ليس على المنابر وإصدار الأحكام النهائية بخلفيات كيدية وثأرية على بعض الشخصيات؟
بل بالعودة الى وقائع تلك المرحلة التي تكشف بما لا يقبل أدنى شك:
1- كل المحرّضين على الجيش، تارةً بتخوينه، وتارةً ثانية بتكفيره، وتارةً ثالثة بوصفه بالجيش الصليبي الكافر، وتارةً رابعة بدعوة العسكريين من لون مذهبي معيّن الى ترك المؤسسة العسكرية والانشقاق عنها، وثمّة حالات عديدة قد حصلت في أكثر من منطقة شمالية، وتارةً خامسة بوضع العسكريين ضباطاً أو رتباء أو أفراداً، أهدافاً للقتل والمطاردة لمجرد ارتدائهم الزّي العسكري، على نحو ما حصل في بعض مدن وقرى تلك البيئة الحاضنة.
2- إنّ التحقيق الموضوعي والشفاف ليس من النوع الذي تستعصي معه إماطة اللثام عن الحقائق، وإظهارها الى العلن فكل شيء مكشوف؛ هناك موقوفون على صلة بما جرى في عرسال وخطف العسكريين في 2 آب 2014 وقد أدلوا باعترافاتٍ سابقة كافية لتوضيح الصورة، وهناك جهة تسمّي نفسها «هيئة علماء» يقال إنه كان لها دورٌ ملتبس في عملية الخطف وتسويق نظريّة الضمانات مقابل وقف إطلاق النار من قبل الجيش، وهي هيئة معروفة كامل الهوية ومكان الإقامة.
وهناك «أبو طاقية» المتواري ودوره في احتجاز العسكريّين في منزله، ومن ثمّ نقلهم من منزله الى الجرود بعد فرزهم مناصفةً بين جبهة «النصرة» وتنظيم «داعش»، وهناك أيضاً نواب كان لهم الدورُ التحريضي الخطير على المؤسسة العسكرية في عزّ معركة عرسال وقبلها، وكذلك صرخاتهم الدائمة بعدم المَسّ بمَن سمّوهم «الاخوة المجاهدين» فيها، وبعض هؤلاء النواب في حقه دعاوى رفعتها المؤسسة العسكرية.
وأكثر من ذلك هناك وزراء حاليون في الحكومة الحالية كان لهم دورٌ مماثل. يعني ذلك أنّ التحقيق يُفترَض أن يسلك المسار الطبيعي نحو كل الوقائع، وغالبيّتها إن لم تكن كلها، معلومة من قبل كل اللبنانيين، وتؤشِّر الى القاتل والمشترِك والمتورّط والمُغطِّي والمحرِّض.
هنا التحقيق الحقيقي وليس إصدار الأحكام على المنابر. وعلى هذه الوقائع يُفترض أن يدخل المحقّقون، خصوصاً أنه لا يوجد أيُّ غطاءٍ سياسي بل لا يجرؤ أحد في ظلّ الوقائع الجديدة التي استجدّت بعد تحرير الجرود وطرد الإرهابيين أن يوفّر مثل هذا الغطاء الذي كان سميكاً جداً في آب 2014. إلّا إذا كان هناك مَن يصرّ على حفلة الاستنزاف والاستثمار السياسي والإمعان في إطلاق الاتّهامات الثأرية وخصوصاً ضد القيادة السابقة للجيش، فهذا لن يؤدّي إلّا الى الإضرار بالمؤسسة العسكرية والإساءة لها، إن لم يكن قتل العسكريين الشهداء مرةً ثانية.
يبقى السؤال الى أين سيصل التحقيق؟
ربما يكون إلقاءُ القبض على الملقّب بـ «ابو عجينة» فاتحةً لدحرجة كرة الثلج على رؤوس كل المتورطين. وهو ما ستجيب عليه الأيام المقبلة.