مآزق بالجملة باستثناء الكورونا
وحده «كورونا» الفايروس القاتل، العالمي، خارج المأزق. ترك البشر يتدبرون أمرهم، ولو كانت الحيوانات، على شتى أصنافها، ومنازعها، تعرف ألاعيب الشماتة، و«الحط ع العين» والمعاتبة، أو تتقن فنون الانتقام، ربما فعلت، فهي بمنأى عن Covid-19 وعذاباته، وإجراءاته الوقائية.
منظمة الصحة العالمية، في مأزق، فوفقاً للبيانات والتصريحات اليومية، لا عقار شاف للوباء، الذي يتكرر ما يشاكله، خلال نصف قرن أو قرن كامل.
الولايات المتحدة الأميركية، التي دارت شبهات، أول الأمر، حول دورها في تصنيع الفايروس ونشره، كانت من أكثر الدول وقوعاً في المأزق، فعلماؤها ومختبراتها، وكيميائيوها والصيادلة، «رفعوا العشرة طلوع»، بعد مرور أسبوع، أو أسبوعين، أو شهر وحتى أشهر. يتباهى دونالد ترامب (الرئيس الأميركي) بقدرة بلاده على صنع الدواء، وهذا لم يحدث، لكنه قرّر مصارعة «الفايروس الخفي» على طريقة «صراع الثيران»، من دون جدوى، فإذا هو عدو حقوق الإنسان، والمتهم الأول بإحياء «جذوة» النظام العنصري الكوني، من روديسيا التي انتصر عليها نلسون مانديلا إلى «إسرائيل التوراتية» التي يرعبها صاروخ بيد مقاتل في غزة او في لبنان، فضلاً عن الحجارة بيد أولاد الضفة الغربية وأطفال عرب 1948.
أوروبا الصناعية، التي شاخت، من دون أن تموت، تتجدّد، على وقع لعبة الحياة والموت، في مواجهة القوة الأميركية، والقوة الصينية، اللتين تتقاتلان، من وادي السليكون في كاليفورنيا إلى ووهان الصينية، حيث وُلد الفايروس، وانتشر في أرجاء المعمورة.
اقتحم البشر ميادين المواجهة، بعد انكفاء مرده تمسكهم بحياتهم، حتى لو توقف السفر، والإنتاج، وذهب الناس إلى البطالة، وانهارت مؤسسات من دون أن تلوح في الأفق فرصة لإعادة بناء ما تهدّم، أو بناء نماذج صناعية، أو مالية، أو حتى تشريعات جديدة.
كل يراجع ما حصل، ومن دون أن تشمل المراجعة النظرة إلى الحياة والمجتمع والكون… فممارسة الحضارة، على نحو ما آلت إليه، لا يدعو التفكير لحظة بما حدث، وكيف ستكون عليه الحال، إذا تكرر الوباء، أو ضخ إلى العالم، عبر فضائه ومائه وبرده فيروسات، من نوع أشد وأدهى، وأكثر فتكاً؟.
هنا، الكل ينتظر، والموقف، لا يتحدد بصورة واضحة، إلا عبر سيرورات ما يجري، وانتقالاته الهادئة أو العنيفة أو الثورية!
وفي المناسبة، هنا، ليس مناسبة الكلام عن الثورة، ففي هذا البلد، لم تكن ثورة، ولا كانت، ويحلو للبنانيين، من أي جهة جاؤوا أن يتندروا بالخيارات الكبيرة، وينسجوا على منوال غيرهم، حتى في الخيال أو أحلام اليقظة.
في 17 ت1، اتخذ قرار بصرف النظر عن توصيفه، أمعوجاً أو في محله، وقضى برفع كلفة «الواتساب» بضعة دولارات. جنّ الرأي العام، وتقاطر العشرات، فالمئات، والألوف، إلى هناك، إلى وسط العاصمة، الذي أريد له أن يكون شاهداً على نهاية الحرب، ودفن أحلام الازدهار اللبناني في الخمسينيات والستينيات، وتحوّل البلد الصغير إلى سويسرا الشرق، وهناك دفنت أحلام المالكين القدماء لوسط العاصمة، بأحيائه التاريخية، ومحلاته، ومقاهيه، ومخازنه، وكل ما يمت الى بيروت الجميلة بصلة.
وهناك دفنت، بعد معارك الفنادق والأحياء القديمة، وشارع المصارف، والفنادق إلى غير رجعة، أفكار التغيير الديمقراطي، أو «الوطن المسيحي» أو البديل البديل، أو الجمهورية، التي تشكل المدخل للعودة إلى فلسطين وبناء الجمهورية الديمقراطية الوطنية المستقلة، وربما الشعبية، على غرار اليمنين (الجمهورية اليمنية، وجمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية).
كان ما حدث بين الأحد الماضي، وليل الخميس – الجمعة، مرعباً، حرائق في المحلات، تحطيم واجهات الفنادق، تحطيم واجهات المصارف، هناك في الوسط، كانت بيروت تحترق، كانت المخاطر من العودة إلى «الحروب الصغيرة» على الطاولة، كانت المخاوف من انهيار النظام المصرفي، في محلها.
في وسط بيروت، كما في أيام الحرب الأهلية، كانت مخابرات العالم، من الـC.I.A إلى الموساد، والسافاك، والمخابرات العربية، فضلاً عن K.J.B (البوليس السري السوفياتي)، تذكي الأحداث، وتبعث بالتقارير… وتمضي بيانات المتقاتلين، القوات اللبنانية، النمور، حراس الأرز، والمرابطون، والتحالف الفلسطيني، والقوات المشتركة، و«العاصفة مرّت من هنا»، وليسقط الانعزال… في تعداد الإنجازات، وتلقين العدو درساً، ودحر المتسللين، ونعي الشهداء، من اجل لبنان وفلسطين والعروبة، والمشروع الانتقالي للحركة الوطنية اللبنانية من دون نسيان دحر صهينة لبنان، وإسقاط المشروع الانعزالي، وقوات الصاعقة تتصدى للمعتدين.
كان المتقاتلون المسيحيون والمسلمون، والفلسطينيون والعرب، يرقصون رقصة الموت، مع الأحلام الموعودة، التي صارت مثل العودة الموعودة، والأرض السليبة، تحولت إلى دواوين شعرية، ومناحات، ورثاء، وكلام جميل، سواء في أشعار نزار قباني، أو محمود درويش أو الشاعر أدونيس.
تدمّر وسط بيروت، لتنتعش من جديد، وها هي الآن، تقترب من احتضار الموت مخلفة الأسى والهلع، ليس من كورونا، بل من الآفاق المسدودة، أمام إعادة الحياة لمدينة المدائن، وسيدة العواصم، التي التحقت بمدن العرب العظيمة، من دمشق إلى بغداد إلى القاهرة، وصولاً إلى صنعاء وعدن، وطرابلس الغرب (شمال افريقيا).
الحراك المدني الهادف إلى التغيير في المأزق، على فرض إسقاط حكومة حسان دياب، وهذا أمر غير متاح، لا بالقوة القاهرة، أو حتى القادرة، لأن حركة 17ت1 ليست هي التي أسقطت حكومة سعد الحريري، بل حسابات، فيها الخاطئ وفيها المصيب، لكنها سقطت، مخلفة ظروفاً بالغة القسوة على اللبنانيين، الذين، وهم يخرجون من زمن «الاستقرار الجميل» إلى الزمن المجهول، ما خلا لقمة الطعام المغمسة بالعرق، أو حتى المساعدات المقررة لدعم الأسر الفقيرة!
في المأزق الخطير هذا:
– ذهبت المخازن الكبرى، التي تخشى من اقتحامها، إذا دقت ساعة الجوع الكبرى، إلى رفع درجة الحماية، بتحميل السوبرماركات، إلى حصون، تسد منافذها صفائح الحديد طولاً وعرضاً – لجأت المصارف الى الأمر نفسه. أنت لا تعرف أين أصبح مركز فرع بنك عودة، في ساحة إيليا، صفائح التحصين، غيّرت المعالم وكل شيء (لا تنسى عبارة ثورة على هذه الصفائح المعدنية).
– قوى اليسار، أمام المأزق، ماذا تفعل؟ هل تلتزم الصمت، وهذا أبغض الحلال، أم تندفع إلى الشارع، وسط شعارات، وأفعال، تخدم الطبقة السياسية، التي تحوّلت إلى ما يشبه «الجراد» الذي يأكل الأخضر واليابس.
– القوى الأمنية في مأزق التعاطف مع الجمهور الغاضب، دفاعاً عما تبقى من مال قليل يسد الحاجة إلى طعام، وماء وغذاء، (فلا الملابس وقتها الآن… ولا حتى إيجارات المنازل)، فهي ملتزمة بتنفيذ الأوامر، وهي حريصة على عدم الصدام مع الشارع.
وحدها الطبقة السياسية، تعيش على أوهام إنجازاتها، من إنجاز عدم الإطاحة برياض سلامة (حاكم مصرف لبنان) إلى إنجاز إحباط سقوط «محاولة الانقلاب» بتعبير الرئيس حسان دياب.
والرجل، في وضع لا يُحسد عليه، فهو لا يريد أن يبقى، لولا الخطة الإنقاذية التي بحوزته… عازفاً على وتر حقوق المودعين، حيث الدولة هي الضمانة… ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟!