خبّية والـ”لالا” والفلوطي والدفوني وبوظة حنا وذكريات عمر
هي الذكريات الصامتة، ما بين الروح والعقل، قد “تكسر القلب” حيناً وقد “تُنعشه” أحياناً. هناك، في الأشرفية المتكئة على تلة شامخة، فيض من الأحاسيس وعبير عمر. الأشرفية، قلب بيروت وروحها، تكاد تُصبح حفنة ذكريات لناسٍ ولدوا فيها وعاشوا فيها وكم يتمنون ألا يموتوا إلا فيها. ثمة ذكريات جميلة في شرايينها وذكريات فيها وجع. فلنبحث بين طيات الذكريات، في سمات تلك الضيعة – المدينة، عن ماضٍ وحاضر ومستقبل. فلنبحث عن بوظة حنا موسى وفلافل الأخوين صهيون ومحلات دفوني وقبعات خبّية وفروج الـ”لالا”، وصالون شعر طوني كرم المستعار ومكتب “الفلوطي” لدفن الموتى وصيدلية عتيق وحلويات ورد ومرهج ونورا… فلنبحث عن الأشرفية في قلب الأشرفية.
تتبدّل المعالم مع الزمان، لكن حين يكون المعلم روحاً يلد تغييره ألماً. هناك، في أحياء الأشرفية، ألم كثير. وهناك مواطنون سطّروا بطولات ومواطنون يُسطّرون اليوم أبيات شعر بحثاً عن الأشرفية، الضيعة الضايعة، التي تنسحب رويداً رويداً من تحت أقدامهم. فها هو رامي يتلو الشعر مردداً “وطن الهموم أنا هنا، حدق أتذكر من أنا، أنا التي كانت أشرفيته ههنا”. فقد رامي هواه… “أشرفيته”. تغيّرت عليه كثيراً. وأتى الانفجار ليُطيح ببيوتها التراثية العتيقة. فها هو المبنى الذي شغله حنا (متري) موسى، مبتكر أشهى أنواع البوظة، طوال 70 عاماً قد هوى. ولده متري موسى الذي انتقل من الأشرفية الى الأشرفية، من شارع مارمتر الى شارع السيدة، يحمل ذكريات كثيرة من ذكريات والده. وطعم بوظة حنا، المسماة بوظة “السلام”، تستمر تحت أضراس الكثيرين في كل المعمورة، من الأشرفية الى كل لبنان الى أوروبا وكل آسيا والأميركيتين. ومن يأكل منها مرة يطلبها في كل مرة. مات حنا. وهوى محله. وها هو ولده متري يتابع بنفس النكهة والطعم والنجاح. فما سرّ نجاح ابن الأشرفية حنا موسى؟ وما سرّ صموده دوماً في البال على الرغم من كل الأسماء التي برزت في صناعة البوظة والمعكرون والعوامات والمشبك والمعمول؟
الثابت أن كلمة الريادي (entrepreneur ) التي تتردد اليوم في العالم تليق بكثير من أبناء وبنات الأشرفية لكن تحت تسمية “الشطار”. حنا موسى كان ريادياً “شاطراً”. وهو بدأ العمل في محل بوظة في الأشرفية منذ كان بعمر السبع سنوات وبعد 13 عاماً، أراد أن يأخذ “فرصة” ليوم واحد، يوم الأحد، لحضور زواج شقيقته فرفض صاحب العمل فقدم حنا استقالته وغادر. ولأن “الروح الحلوة” كانت تسود في تلك الأيام استطاع أن يحصل، بلا ورقة ولا كفالة، على 900 ليرة لبنانية عداً ونقداً وانطلق في رحاب محل صغير متواضع، أربعة أمتار بأربعة أمتار، استأجره وسماه “السلام” نسبة الى فريق السلام لكرة القدم، الذي كان مقره في الأشرفية، حيث شُيد مكانه مجمع الـ”أ ب ث”. وكلما ربح الفريق كان يأكل أولاد الأشرفية مجاناً وكلما خسر يغضب حنا ولا يبيع. وذاع صيت محله ونقلت “الفيغارو” و”التايمز” و”سي أن أن” و”باري ماتش” وكثير من الإعلام الغربي ما استطاع أن يقدمه اللبناني حنا موسى من بوظة عالمية. ويوم غادر ابن حنا إلى فرنسا الحنونة بكى “المعلم” ويوم عاد ابنه وزع التمرية والمعكرون والمشبك والبوظة هاتفاً: رجع متري…
كل أولاد الأشرفية، وكثير من أولاد العالم، ذاقوا من أيدي الوالد حنا ثم الإبن متري. وأحلى ما كان أن الأب والإبن حرصا على دقّ الجوز والفستق وإعداد البوظة أمام الزبائن، فلا أبواب خلفية ولا “أتيلييه” ولا خفايا إلا الخلطة… فما سرها؟ يجيب متري: “لن تعرفوا إلا بعد أن تتذوقوا”.
بعد انفجار الرابع من آب، وهطول الأمطار الأخيرة، هوى محل حنا موسى في شارع مارمتر (الذي حمل اليوم اسم شارع بسترس) بعد ثمانية أعوام على رحيل “المعلم”، لكن إبنه يتابع اليوم بنفس النفس والشغف والمحبة. وهذه عناصر نجاح.
على طول الطريق…
كان يمشي أبو نقولا، أشهر لحام في التباريس، يومياً من منزله في الدفوني الى محل حنا موسى، يدردش معه وهو يتناول “كورنيه” بوظة “غير شكل”. أبو نقولا ترك أيضاً محله. هو العمر بدّله وبدّل طبيعة المدينة التي يحب. بعيداً قليلاً من بوظة السلام كانت محلات “كابريس” للخياطة، وكابريس هو رجل أرمني كان يختار مرادفاته بعناية ويبتسم لنسوان الأشرفية اللواتي “إذا قال لهنّ سعر الزرّ ليرة أجبنه نص ليرة وإذا قال لهن نص ليرة قلن ربعاً”. كان ذكياً والكل يحبه. صيدلية عتيق كانت قريبة، وهي وفرن شقير جيران عمر. هُدّ الفرن وشُيّد مكانه مبنى شاهق. أما عتيق الصيدلاني الآدمي، الذي يعرف سكان الأشرفية واحداً واحداً، فتساعده اليوم ابنته الصيدلانية. ثمة مؤسسات يكمل الأولاد فيها بعد أهلهم. وهؤلاء يساهمون في الحفاظ، حتى اللحظة، على كثير من سمات جمالية الأشرفية.
آل الفلوطي يصمدون هم أيضاً في الأشرفية، في إدارة مؤسسة دفن الموتى. وكل أولاد الأشرفية يعرفون آل الفلوطي وآل ترانتيك، العائلتين اللتين واجهتا “المعتدين” خلال الحرب. واليوم، حين يقال فلوطي أو ترانتيك، يذهب السامع فوراً الى الأشرفية التي كان فيها أناس أغنياء جداً “ومظنترون” وناس “قدّ الحال”. وكان في المنطقة المجلخ والمبيّض واسبر مجدلاني الخياط ووليم الذي يحيك أجمل القطع ويوسف كسرواني بائع الأقمشة، وخبّية بائع أجمل القبعات وطوني كرم الذي ذاع صيته في عالم الشعر المستعار من هنا، من الأشرفية الى العالم. وولده جورج ورث المهنة عن أبيه.
“رايحين عالأشرفية؟ جيبوا معكم فلافل من عند صهيون…”. هي الجملة التي طالما لازمت الكثيرين من عشاق الأشرفية، ومن كانوا يعرفون ماذا في الأشرفية. ولكن، هل ما زالت فلافل صهيون اليوم، عند أطراف الأشرفية، كما في أيام العزّ؟
المحل أصبح محلين بعدما تخاصم الشقيقان صهيون، بعد شراكة طويلة، ففتح أحدهما محلاً تحت عنوان “فلافل صهيون- ليس لدينا فرع آخر”، وعنوان الآخر محلة “فلافل صهيون- المحل الأساسي”. كثيرة هي العائلات التي تفرّقت وفي التفرقة ضعف. فدخلت أصناف وأنواع من الفلافل على الخط لكن بقي لفلافل صهيون وفلافل فريحة (في ساسين) حصة الأسد.
نعود الى متري حنا موسى لسؤاله عن الأشرفية اليوم: ماذا بقي فيها بالنسبة إليه من ذكريات الأمس؟ يجيب: “كثر من “ولاد الأشرفية” الأصيلين ماتوا وغادرها كثير من الشباب ولم يعد فيها حالياً إلا “الختيارية”. كان العيش هنا جميلاً جداً. خلال الأحداث تعرضت الى حادث فهبّ جميع شباب الأشرفية ليروا إذا كنت بحاجة الى شيء. الخميرة كانت هنا صالحة جداً. الكبار يرحلون. طقشي، صاحب محال القماش الشهير في الاشرفية، رحل وابنه يتابع اليوم ما بدأه والده. ساندويش أبو الزوز على الجعيتاوي يتابع ولده العمل فيه. مطعم الـ”لالا” الشهير تتابع ابنته ما بدأ… يتوقف متري عن الكلام ليُجيب امرأة تتكلم بالفرنسية تأتي يومياً لتناول بوظتها اليومية الملغومة بالمسكي والفستق قبل ذهابها الى البيت. يتسامران. يعبئ لها كورنيه البوظة القديمة التقليدية كما تُحب. جميل أن يكمل الأبناء والبنات قصص نجاح أهلهم. متري موسى يتذكر أن والده طلب منه مرة أن يتذوق المعكرون فقال له بعد ان فعل: ينقصها هذا وهذا… فردّ المرحوم حنا وهو ينظر الى زوجته: “بلّش يصير معلم”. كثيرة هي مزارات القديسين في أحياء وشوارع الأشرفية. ومتري حنا مؤمن جداً، كما والده، وهو يشير الى صورة العذراء في “العوامات” ويعتبرها اشارة. والبارحة، يوم هوى المبنى الذي كان يشغله اشهر محل بوظة في العالم في الاشرفية بقي طرفه معلقاً. مارالياس تدخل.
الأشرفية التي تنسحب تدريجياً من تحت أقدام ناسها، بأمر من أصحاب المال والأعمال، ما زالت تحتفظ في البعد السوسيولوجي بالحنين والذكريات. وإن خلا منها “الدكنجي” واللحام وصوت طقطقة أحجار طاولة الزهر و”فتّ” ورق الشدة والفرح الحقيقي. الأشرفية تموت بدل المرة مرات. والصفعة الأخيرة، جريمة 4 آب، لَوَت ذراعها وهدتها. ولكن، من يسرح اليوم بين الأحياء البسيطة، بعيداً من العمارات الشاهقة، يشعر بالفعل أن “الخميرة” القديمة فيها ما زالت (وستبقى) تُعطي مفاعيلها.