ما من شك في أنّ لقاء معراب شكّل حدثاً كبيراً وانعطافة أساسية على الساحة المسيحية، ومن خلالها على المسار اللبناني العام. ويُخطئ مَن يعتقد أنّ انعكاسات هذا الحدث محصورة بالاستحقاق الرئاسي فقط، بل إنها تتعدّاه لتطاولَ مجملَ الملفات الأخرى.
صحيحٌ أنّ العماد ميشال عون فاز بتأييد «القوات اللبنانية» في معركته الى قصر بعبدا، لكنّ الدكتور سمير جعجع كسب كثيراً من النقاط والتقط عدداً من الأوراق في الشكل والمضمون.
إلّا أنّ «ضربة» معراب لا تعني أبداً أنّ التوازنات الجديدة التي رست أصبحت ثابتة ونهائية، فالحرب لا تزال طويلة وخلط الأوراق الذي أنتجه لقاء معراب فَرَز جبهات وخطوط تماس جديدة. وقد تحتاج الصورة لبعض الوقت قبل أن تُصبح واضحة ليجري العمل على أساسها.
في المبدأ، نجح جعجع في وضع عائق كبير أمام النائب سليمان فرنجية، وقطع الطريق على أيّ جرعة دعم خارجية كان فرنجية بأمس الحاجة اليها وينتظرها من الفاتيكان وفرنسا قبل زيارة الرئيس الايراني حسن روحاني لباريس وخلالها، ونجح أيضاً في التمرّد على خيارات الرئيس سعد الحريري دافعاً بالخيار الوحيد الذي يضع تيار «المستقبل» ومعه السعودية «فيتو» عليه.
وهو نجح أيضاً في جعل نفسه صاحب القدرة على اختيار المرشح لرئاسة الجمهورية وليس البقاء في خانة الذي سيطلب مساومة لقاء القبول بخيار الحريري. كما أنه تابع سعيه في إزالة مزيد من الغيوم السود التي تجمّعت في سماء العلاقة بينه وبين العونيين منذ زهاء العقود الثلاثة واستمرّ في تعبيد طريقه لتعزيز موقعه في جبل لبنان المسيحي معقل «التيار الوطني الحر».
ويراهن جعجع ضمناً على أنّ كلَّ هذه المكتسبات سيُضاف اليها مكسبٌ آخر وهو ترك غيره يعرقل وصولَ عون الى قصر بعبدا، وأنه فيما لو حصل ذلك انسجاماً مع المبدأ القائل إنّ «كلَّ شيء ممكن في السياسة»، فإنه حصّن تفاهمه مع عون من خلال تفاهم مشترَك عريض يسمح له بتوسيع قاعدته المسيحية ويطاول كلَّ شيء تقريباً، بدءاً من الانتخابات البلدية مروراً بالنيابية فالحصص الوزارية والتعيينات الإدارية والرسمية.
ثمّ جلس على كرسيه يتأمل واقع تيار «المستقبل» وهو يستقبل باقة الشوك التي أرسلها له بالبريد المضمون. في المقابل، بدا «المستقبل» وهو يحاول استيعابَ الضربة والحدّ من الخسائر، وكان متوقعاً أن يعمد الحريري الى استيعاب الضربة بأسلوب مرن، فهو قرّر أن يثني على تثبيت «المصالحة» المسيحية – المسيحية وأن يبدي تأييده لها، لكن في المقابل سيزيد من تمسكه بخيار فرنجية مع دعوة الجميع الى المشاركة في جلسة انتخاب الرئيس في 8 شباط المقبل وهو المدرك سلفاً أنها لن تحمل جديداً بسبب الافتقاد الى التوافق الداخلي والاقليمي.
لكنّ المرونة الظاهرة لن تمنع تراجع التواصل بين الفريقين الى درجة متدنّية، بما معناه الإبقاء على ما يشبه «شعرة معاوية» لا أكثر. لكنّ جعجع الذي حسب كثيراً لخطوته سيحاول اللعب على التناقضات الداخلية في المملكة العربية السعودية، وهو يدرك في نهاية المطاف أنْ لا بديل مسيحياً لدى دول الخليج عن «القوات اللبنانية»، وهي التي تخوض مواجهة مفتوحة مع إيران ومع حليفها القوي «حزب الله».
ففي العراق خسارة للسعودية، وفي سوريا شبح الخسارة يرفرف، وفي إيران رفع للعقوبات وعلاقة تخفي كثيراً مع الولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا فإنّ من الصعوبة بمكان خسارة مزيد من الاوراق وإحداث خلل إضافي في ميزان القوى الذي يميل أساساً لمصلحة «حزب الله». وهناك مَن يعتقد أنّ توجّه جعجع قد تكون له علاقة بالتوازنات الجديدة في المنطقة. فالخيار الذي راهن عليه في سوريا آيل للسقوط في ظلّ وجود روسي أخذ التزاماً دولياً بحماية الأقليات.
ومنذ الخطاب اللافت للنائب ستريدا جعجع في مجلس النواب عن «النضال نفسه» لـ«القوات» و«حزب الله» والدم نفسه وأوجه الشبه ضمن مسيرتهما، هناك مَن يضع هذه الرسائل في إطار محاولة إعادة تموضع «القوات» بعد انقلاب الصورة الإقليمية. لكنّ رسالة «القوات» التي رفض «حزب الله» أن يتسلّمها وضعها البعضُ الآخر في إطار سعي جعجع إلى إزالة «فيتو» «الحزب» على ترشحه للرئاسة.
لكن مع الوقت وفي ثنايا المواقف المعارضة لـ«القوات» تجاه «حزب الله»، استمرت الإشارات المبطّنة والمرمّزة وكان آخرها بعد لقاء معراب على لسان النائب جعجع نفسها عندما دعت «حزب الله» الى المشاركة وتأييد الخطوة. فلماذا دعوة الحزب وليس تيار «المستقبل» مثلاً؟
في المقابل، يقف «حزب الله» متفرجاً على الانقسام الحاصل في معسكر خصومه. فالفريقان يتنازعان على مرشحين حليفين في العمق مع الحزب، وبدا أنّ اندفاعة رئيس مجلس النواب نبيه برّي بالإعلان عن انسحاب فرنجية وتأييده لعون شرطاً لاعلان تأييد كتلته هذه الاندفاعة، عادت وتراجعت ربما انسجاماً مع تروّي الحزب وجلوسه على مقاعد المتفرّجين. فهو يعتبر نفسه رابحاً هنا وهناك وينتظر موقف الحريري وحليفه النائب وليد جنبلاط المعارض لعون. فلماذا الاستعجال بالنزول الى حلبة المعركة طالما أنّ المواجهة في مكان آخر!
ربما لـ«حزب الله» مصلحة في إرتفاع حدة المعركة بين خصومه وتمرير الوقت وتأجيل موعد الاستحقاق وهو ما يريده بالضبط، وصولاً الى ربط الحلّ اللبناني بالتسوية السورية.
لا بل إنّ «حزب الله» يترك ملفّه الى المرحلة الأخيرة وهذا الملف يحوي مطالبه الفعلية قبل إعطاء الضوء الاخضر للتسوية الرئاسية. فهو يريد رزمة مطالب في طليعتها قانون جديد للانتخاب وتشريع سلاح المقاومة في حال الاتفاق على بقاء رئاسة الحكومة في العهد الجديد على مستوى الحمائم كما هو حاصل اليوم. أما في حال الإصرار على عودة الحريري، فالرزمة ستكون أكبر وستُضاف بنود أخرى مثل وقف مشاركة لبنان في المحكمة الدولية.
وبالتالي فإنّ المعركة الحالية ستكون مفيدة بالنسبة اليه لناحية إنهاك خصومه، فيما هو يحتفظ بحيويّته. هو محشور بين حليفين لكنّ الوقت لمصلحته.
والثابت وسط كلّ هذا الضجيج، هو أنّ الاستحقاق الرئاسي لا يبدو قريباً، لا بل على العكس، وأنّ عون لن يتجاوب مع مطلب فرنجية أن يخوض جولة أولى وثانية، وإذا لم يحالفه الحظ ينسحب لفرنجية شرط أن يحصل كلُّ ذلك في إطار جلسة واحدة وفي اليوم نفسه.