بروفسور جاسم عجاقة
منذ إقرار الموازنة الجمعة الفائت وتصريحات السياسيين من كل الأحزاب والطوائف تدور حول مساهمتهم «الأساسية» في إقرار موازنة ليسوا راضين عنها بالكامل ولكن يعتبرونها «إصلاحية». وهنا يطرح المواطن على نفسه السؤال الآتي: أين الإصلاح في هذه الموازنة في ظلّ غياب أي إجراءات لحلّ مُشكلة الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، ومعالجة التهريب الجمركي على الحدود البرية، البحرية والجوّية، وخفض التهرّب الضريبي الذي هو علّة العلل…؟جلّ ما وصل إلى آذان المواطنين هو خفض للعجز في الموازنة سبقه على مدى الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي وقف دفع الدولة مُستحقات المورّدين ووقف المشاريع الاستثمارية (تمّ تأجيلها إلى الأعوام اللاحقة). هذا بالطبع سيؤدّي حكمًا إلى ركود اقتصادي في أحسن الأحول وإلى انكماش اقتصادي في ظل تردّي الوضع.
في ظلّ هذه الأجواء، نطرح السؤال عن الإجراءات التي وضعتها السلطة لتحفيز النمو الاقتصادي؟ بالطبع، وإذا ما استثنينا مشاريع مؤتمر سيدر التي تُعتبر الموازنة جواز سفر للحصول على تمويل لها، يُمكن القول أنه لا يوجد أي إجراءات في هذا الاتجاه.
ماذا تقصد السلطة بقولها انها قامت بإصلاحات في الموازنة؟ كيف ينظر العلم إلى هذه الإصلاحات؟ والأهمّ ماذا يجب فعله للخروج من الوضع الاقتصادي الذي نعيشه؟
إصلاحات الموازنة بنظر السلطة
أطلقت القوى السياسية كلمة «إصلاحات» على كل الإجراءات التي اتخذتها لخفض الإنفاق ورفع الإيرادات. هذه التسمية تتمشى جزئيًا مع استخدام عبارة «إصلاحات مالية» من قبل صندوق النقد الدولي. فهذا الأخير يُحدّد الإصلاحات على أنها كل الإجراءات التي تُتخذ لخفض الإنفاق ورفع الإيرادات مع التركيز على أن الإيرادات منبعها الضرائب وبالتحديد الضريبة على القيمة المضافة في حال كان العجز مُرتفعًا.
إذًا ظاهريًا، الحكومة تستخدم عبارة صندوق النقد الدولي للتعبير عن قيامها بإصلاحات، لكن الإصلاحات التي قامت بها لا تمت إلى الإصلاحات التي ينتظرها المواطن بأي شكل من الأشكال. ويكفي القيام باستفتاء بين المواطنين لإستنتاج أن أغلبية المواطنين لا يعتقدون أن هناك إصلاحات، والسبب أن الإصلاحات التي يقصدها المواطن هي محاربة الفساد والهدر بالدرجة الأولى.
بالطبع نحن لا ننتقد الموازنة، لأن الموازنة هي أهم قانون تُقرّه الدول بحكم أن هذا القانون هو الذي يرعى الإنتظام المالي والإقتصادي والإجتماعي في هذه الدول. وبين خيار «عدم وجود موازنة» وخيار «موازنة فيها عيوب»، نُفضّل الخيار الثاني. وبالتالي جلّ ما نُحاول القيام به، هو تسليط الضوء على العيوب الموجودة في الموازنة بهدف تحسينها في موازنة العام 2020.
قامت الحكومة بعدد من الإجراءات لا نعرف ما هي (بسبب غياب تفاصيل كافية)، أدّت إلى خفض الإنفاق في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2019. فقد بلغ مجموع الإنفاق خلال هذه الفترة 4.84 مليار دولار أميركي مقارنة بـ 5.73 مليار دولار أميركي في الفترة نفسها من العام 2018 أي بانخفاض بنسبة 15.45%.
التفاصيل الموجودة في أرقام المالية تُشير إلى أن بند «إنفاق من موازنات سابقة» انخفض بنسبة 18.42%، بند «خدمة الدين الداخلي» انخفض بنسبة 13.58%، بند «سد رأسمال الدين العام» انخفض بنسبة 5.13%، بند «دعم مؤسسة كهرباء لبنان» إنخفض بنسبة 2.88% …
بالإضافة إلى ذلك، أخذ وزير المال علي حسن خليل في شهر نيسان الماضي قرارًا طلب فيه من مؤشري عقد النفقات عدم التأشير على أي نفقة باستثناء الأجور ومُلحقاتها بالإضافة إلى النقل. هذا القرار أوقف دفع الدولة لكلّ مُستحقات الموردين وغير الموردين باستثناء الأجور وخدمة الدين العام وبعض البنود الأخرى. بالطبع خفض الإنفاق العام من خلال التوقّف عن الدفع سيؤثّر حكمًا في الأطراف التي لها مستحقات على الدولة وخصوصًا القطاع الخاص مما سيؤدّي إلى تراجع الاقتصاد حكمًا.
خفض الإنفاق (على الورق) الذي قامت به السلطة في الموازنة العامّة طال هامشاً تمّ تحقيقه فعليًا على الأرض من خلال قرار وقف الدّفع. وبالتالي لا يُمكن تسمية هذا الإجراء بعمل إصلاحي، فالأموال المُستحقة هي أموال مُستحقة وسيتمّ دفعها العام القادم أو العام الذي يليه! مما يعني أن خفض العجز الحالي قد يكون اصطناعيًا وبالتالي ستُعاود المشاكل الظهور في الموازنات اللاحقة.
إن الإصلاح الذي يُنادي به المُجتمع الدوّلي يتناول قطاع الكهرباء بالدرجة الأولى ولكن أيضًا التهرّب الضريبي، التهريب الجمّركي، والأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، والمناقصات العمومية، وإعادة هيكلة القطاع العام… وغيرها. وكيف لنا أن ننسى في ظل كل هذا الفساد الذي يُعتبر محّركاً لكل المخالفات التي حصلت وتحصل. أين إستقلالية القضاء؟ أين الخطط الإنمائية؟ أين الرفاهية الإجتماعية؟
أللهم ولكي نكون عادلين تجاه السلطة، يبقى رسم الـ 3% هو الإجراء الإصلاحي الأساسي الذي قامت به في موازنة العام 2019، وكما يقول السياسيون: تبقى العبرة في التنفيذ.
ماذا يقول العلم؟
هناك نظريتان تتعارضان في تحليل تأثير الإصلاحات المالية في الموازنة في النشاط الإقتصادي. فوفقًا لنظرية «كينز»، انخفاض الإنفاق العام ينتج منه انخفاض كبير في النشاط الإقتصادي بسبب التأثير المضاعف للهبوط المرتبط به في الاستهلاك.
أمّا في عالم «ريكاردو»، فتنصّ النظرية على أن الانخفاض في الإنفاق العام تُعوّضه بالكامل الزيادة النسبية في الاستهلاك بحكم أن القيمة الحالية للضريبة المُستقبلية التي تتوقعها الأسرة تتناقص مما يعني أن لا تأثير في النشاط الاقتصادي. وبالتالي، يتوجّب على الحكومة تخفيض العجز في حالة وجود فائض في الطلب (الوضع الاقتصادي التقليدي) ولكن يُمكن السماح له بالإرتفاع في حالة وجود فائض في العرض (الحالة الكينيزية). وكل محاولة لتخفيض العجز المالي خلال فترة ركود اقتصادي قد تؤدي إلى الدخول في حلقة مفرغة.
عمليًا لم تستطع دراسة البيانات التاريخية إثبات إحدى وجهتي النظر، إذ لم تتمكن هذه الدراسات من ملاحظة علاقة قويّة بين خفض العجز وأداء النمو الإقتصادي. فمثلاً، في ثلاث حالات تمّ رصدها (الدنمارك 1982-1986 ، إيرلندا 1987-1989 والسويد 1985-1987)، كان هناك رفض لنظرية كينز من ناحية أن خفض الإنفاق العام (بين 8 إلى 13%) حسّن الإستهلاك والإستثمارات والنموّ حتّى أن هذا الأخير تسارع بشكل كبير بفضل خفض الودائع للأسر وبالتالي رفع الإستهلاك.
دراسات أخرى تمّ القيام بها لمعرفة آلية تأثير خفض العجز في الأداء الإقتصادي. وأتت النتائج على الشكل الآتي: يؤدي خفض العجز المالي إلى تسارع النمو وذلك بفضل توقعات القطاع الخاص من التطوّرات المستقبلية. وإذا كان للسياسة النقدية دور كبير في لجم العجز، إلا أن الظروف لحظة البدء بخفض العجز تؤثّر بشكل عشوائي في الإستهلاك الذي قد يميل إلى الإرتفاع أو الإنخفاض.
كل هذه الدراسات لم تستطع تحديد مدى هذا التأثير بمعادلة حسابية، لكنّها إستطاعت أن تُعطي تفسيرًا منطقيًا من خلال القول ان «إقتلاع» العجز (أي خفضه بنسبة كبيرة) له دور أساسي في التأثير الإيجابي في سلوك المُستهلك لأن هذا الأخير يتوقّع إنخفاضًا في الضرائب المُستقبلية. وإذا كانت الزيادة في العجز المالي تؤدّي إلى إستنزاف المدخرات الخاصة، فإن أسعار الفائدة ترتفع وتضرب الاستثمارات. التأثير الصافي في إجمالي الطلب قد يكون إيجابيًا إذا ما كانت مستويات الدين العام منخفضة، لكنه يصبح سلبيًا إذا تجاوزت هذه المستويات حدًا معينًا. في هذه الحالة الأخيرة، يتوقّع اللاعبون الإقتصاديون (الأسر والشركات) حالة من الحالات الثلاث: إفلاس الدولة، إعادة هيكلة الدين العام أو زيادة ضرائب كبيرة في المُستقبل. وبالتالي يفرضون رفع الفائدة لشراء سندات خزينة أو سندات على الآمد الطويل مما يؤدّي حكمًا الى لجم الإنفاق العام. وتعتمد المصارف المركزية هذا المبدأ لنهي الحكومة عن إعتماد سياسة مالية توسعية (إنفاق عام عال).
الإصلاح المالي في لبنان
في الواقع الإصلاح المالي لا يُمكن فصله عن الإصلاح الإقتصادي والإداري والقانوني والبيئي بحكم أن المالية العامّة تتأثر بكل هذه العوامل. فمثلا، تُعتبر إستقلالية القضاء عنصراً أساسياً في الثقة بالإقتصاد مما يزيد من الإستثمار والإستهلاك بحكم أن المُستثّمر يعرف أن حقوقه مضمونة وعلى رأسها «قدسية الملكية» من قبل القضاء. أما المُستهلك فثقته تزيد بزيادة الإستثمارات من باب فرص العمل التي تؤمّنها هذه الإستثمارات. وماذا نقول عن الإنماء المناطقي الذي يُعدّ رافعة للمالية العامّة بحكم زيادة الضرائب وتخفيف الكلفة على العاصمة وجوارها. أمّا البيئة فقد أصبحت جوهر السياسات الإنمائية في العالم ويكفي النظر إلى معاهدة الحدّ من الإحتباس الحراري لمعرفة أهمّية هذا الأمر في المالية العامّة.
وكيف لنا أن نتناسى تحديث قوانينا مثل النظام الضريبي غير العادل، والتاريخ يُخبرنا أن 80% من الدول في العالم تستخدم الضريبة التصاعدية وذلك منذ سقوط الإتحاد السوفياتي. وماذا عن الطرقات والكهرباء والماء والصرف الصحي وغيرها من الأمور التي تهم المواطن والإقتصاد وبالتالي تؤثّر في المالية العامّة؟
إننا إذ نرى في إقرار موازنة العام 2019، خطّوة إيجابية من ناحية إنتظام المالية العامّة، نرى أن هذه الموازنة لم تحمل في طيّاتها كل ما يلزم من إصلاحات. وإذا كان الرئيس الحريري قدّ صرّح أن البيان الوزاري رسم الخطّة الإقتصادية للبنان وأن موازنة العام 2019 هي عنصر في هذه الخطّة، نرى أن الإنقسام السياسي كفيل بتعطيل هذه الخطّة وما حوادث قبرشمون الأليمة إلا مثال عن هذا التعطيل القاتل.