أكثر من مشكلة يتخبط بها اللبنانيون إلا أن أكثرها مرارة هي التي تتصل بواقعه المعيشي وفي كل يوم يشعر المواطن بأن الأفق مسدود للحل وهذا ما ينطبق في السياسة والاقتصاد ،اما السؤال الذي يتكرر طرحه فهو ذلك الذي يتصل بالتطور المقبل على جميع الأصعدة وبالطبع تبقى الهواجس مشروعة إلى حين تحقيق العكس.
للأضاءة على الوضع التقت اللواء الوزير السابق عادل افيوني الذي كان أول من أطلق التحذير من تدهور الوضع ووضع اقتراحات للمعالجة.
ويقول الوزير افيوني : للأسف اذا استعرضنا ما حصل منذ بداية الانهيار المالي والاقتصادي منذ اكثر من سنة، نجد ان السلطات السياسية والمالية بكل مكوناتها لم تقم بأي اصلاح او اجراء جدي يذكر لمواجهة الازمة حتى الآن بل العكس. كل ما شهدناه حتى الآن هو امعان في سياسة شراء الوقت والنكران وتضييع الوقت وخلافات ومناكفات لا تجدي واجراءات بالقطعة أحياناً متضاربة وغالباً عشوائية.
هذا العجز الرهيب في مواجهة اكبر ازمة مالية واقتصادية ومعيشية في تاريخ لبنان هو جريمة بحق الشعب وقد ادّى حتى الآن الى تدهور معيشي متفاقم والانهيار كما نعرف من دول اخرى واجهت وضعاًً مماثلاً لا قعر له اذا لم تتم مواجهته بخطة شاملة وجذرية.
ويلفت إلى أن لخطوط العريضة للحل معروفة والخطوة الاولى والاهم للخروج من العناية الفائقة هي الحصول على دعم مادي سريع وسيولة بالعملات والمصدر الوحيد القادر على تقديم مثل هذه السيولة هو صندوق النقد.
هذا من بديهيات أي ازمة من هذا النوع ويحصل في كل ازمات الدول الناشئة وكان المفروض ان يتم اتفاق مع صندوق النقد على خطة انقاذ شاملة وبرنامج دعم من سنة على الاقل. للاسف، تواطأت السلطات السياسية والاقتصادية على اجهاض هذا الحل وتعطلت المفاوضات مع الصندوق منذ بداية الصيف ولم يحصل اي تقدم على هذا المحور او اي محور اخر.
ويضيف : صراحة انا متشائم بصراحة ولا ارى تقدماً ممكناً في الانقاذ الاقتصادي والمالي في ظل استمرار النهج ذاته في ادارة البلد. فالجمود السياسي وغياب اي تقدم في الملف الحكومي ينذران بمزيد من الفراغ والنكران والانهيار. وحتى اذا تشكلت الحكومة، ماذا يمكن ان نتوقع منها؟ اذا تكرر نمط المحاصصة وتدخلات الاحزاب في تشكيل الحكومة، وتشكلت حكومة من وزراء غير مستقلين، يرتبطون بمرجعياتهم وبمصالحها الخاصة فسنشهد بلا شك نفس الفشل والعجز الذي طبع عمل الحكومات السابقة. الاحزاب الحاكمة همها حصصها ومصالحها الخاصة، فكيف يمكن ان نتوقع منها ان تتفق على برنامج اصلاح وانقاذ جذري؟
لكن ماذا عن رفع الدعم والى ماذا سيؤدي؟ يجيب افيوني :
الدعم ضروري لتخفيف العبء الرهيب عن الطبقات الافقر. لكن المشكلة الاولى بالدعم انه يطبّق منذ سنين بطريقة غير فعّالة وغير عادلة اذ يستفيد منه المهربون والمحتكرون والميسورون اكثر مما يستفيد منه المحتاجون.
اما المشكلة الثانية فهي ان تمويل هذا الدعم بدل ان يكون من خزينة الدولة يتم من احتياط البنك المركزي. علماً ان احتياط المركزي عملياً ما هو الا دين تجاه المودعين وبالتالي كل دعم للسلع الاساسية يحصل اليوم عملياً يتم من اموال المودعين ويفاقم من خسائرهم.
اذاً رفع الدعم يؤدي الى كارثة معيشية لكن المحافظة عليه بهذا الشكل يؤدي الى تفاقم خسائر المودعين.
كيف نعالج هذه المعضلة؟ تتحدث الحكومة عن خطة لترشيد الدعم ولكن لم نرَ حتى الآن الا وعود وكلام.
الحل الصائب برنامج حماية اجتماعية ودعم مباشر للمعوزين ولحاجاتهم من السلع الاساسية برعاية وتمويل واشراف من البنك الدولي وعلى حساب الخزينة. اما احتياط البنك المركزي فلا يجوز استخدامه بعد الآن اذ هو يشكل آخر ما تبقى من اموال المودعين .
وبسؤاله عن وصول لبنان إلى حالة الأفلاس، يقول أن الدولة حالياً في حالة تعثر وتوقفت عن خدمة ديونها بالعملات منذ آذار ٢٠٢٠. هذا التعثر جاء نتيجة طبيعية لتراكم الدين واستحالة اعادة تمويل هذا الدين بالوسائل المتوفرة عبر الاسواق المالية او المصارف المحلية. في آذار ٢٠٢٠ لم يعد هناك مفر من التوقف عن خدمة الدين لكن الخطأ المميت الذي ارتكبته الحكومة آنذاك وحتى اليوم هو انها توقفت عن الدفع وهو قرار مصيري غير مسبوق بتاريخ لبنان لكنها لم تقدم اي خطة اعادة هيكلة للدين العام ومالية الدولة تتلازم مع ذلك كما هو مفروض ومطلوب. كان المفروض ان يتلازم قرار التوقف عن الدفع مع خطة اعادة هيكلة وانقاذ شاملة بما فيها دعم مادي من صندوق النقد. عجزت الحكومة عن تحقيق ذلك وبات مثلها مثل من يلقي الركاب من المركب الغارق في وسط البحر ولا يزوده بسترة نجاة.
نتيجة هذا الفشل كان مزيداً من الانهيار في الثقة والعملة والمصارف والاقتصاد وتفاقم الخسائر ولا نزال ندفع ثمن هذا الفشل حتى اليوم
ويعرب افيوني عن اعتقاده أن الحلول ما تزال ممكنة وإن كان التاخير الرهيب يجعلها موجعة اكثر. الخطوة الاولى والاهم كما ذكرت اعلاه هي اتفاق مع صندوق النقد والبنك الدولي والهيئات الدولية والدول الصديقة مجتمعة للحصول على الدعم والسيولة الضرورية بالعملات واعطاء الخزينة والمصرف المركزي متنفساً لتلبية النفقات الضرورية والآنية والاوليات الانقاذية بدون اللجوء الى استخدام اموال المودعين واستنزاف المزيد منها كما يحصل الآن.
ومن هذه الاولويات الانقاذية التي تحتاج الى سيولة بالعملات: دعم السلع الاساسية وتامين شبكة حماية اجتماعية للطبقات الافقر، واعادة هيكلة الدين العام بطريقة مستدامة وبالاتفاق مع الدائنين بما فيهم المصارف اللبنانية ، واعادة هيكلة المصرف المركزي والقطاع المصرفي برمته والاستثمار في بناء اقتصاد منتج وعصري وتحفيز النمو الاقتصادي واعادة اعمار وتطوير البنى التحتية …الخ الخ.
طبعاً هذا الدعم مستحيل الحصول عليه بدون اصلاحات جذرية سبق والتزمت بها كل الحكومات السابقة وبقيت حبراً على ورق، مثل اصلاح وترشيد المالية العامة ومحاربة الهدر والفساد والتهريب واعادة هيكلة القطاعات الاساسية مثل الكهرباء والاتصالات والمؤسسات العامة وتعيين وتفعيل هيئات رقابية مستقلة في هذه القطاعات وفي القطاع المصرفي والقضاء وغيرهم. هذه الاصلاحات وغيرها معروفة وضرورية وهي ليست شروط صندوق النقد او المؤسسات الدولية بقدر ما هي مطالب كل لبناني وطني منذ عقود. عجز وتقاعس الطبقة الحاكمة عن تنفيذها هو ما اوصلنا الى حالة الانهيار. الكثير من القوانين الاصلاحية جاهز وقابع في الادراج منذ سنين لانه يتعارض مع مصالح الطبقة الحاكمة الخاصة.
ويرى افيوني في رد على سؤال أن سعر الليرة يعكس العرض والطلب والثقة في الاقتصاد المحلي. طالما ان الثقة معدومة في ظل الفراغ والانهيار الحاصل وطالما ان العرض يعتمد بشكل اساسي على تحويلات اللبنانيين من الخارج الى اهلهم لا على استثمارات منتجة او على تصدير منتحات اوخدمات الى الخارج فان سعر الليرة لا يمكن ان يتحسن بل بالعكس الخطر مزيد من الانخفاض.
نحن نحتاج الى سيولة من الخارج كما ذكرت والى حركة اقتصادية وسياحية فعّالة لاستعادة الثقة واستقطاب العملات من الخارج والفراغ الحكومي وغياب اي خطة اصلاحية شاملة حتى تلآن يحول دون ذلك.
عن موضوع دعم البنك الدولي للعائلات الأكثر فقرا والخشية من أن لا يصل إلى المكان الذي يجب أن يصل إليه فيضيع ويتم توزيعه وفق المحسوبيات ،فيؤكد افيوني أن لا ثقة في النظام السياسي الحالي المبني على الزبائنية والمحسوبيات في كل مكوناته ومن سنوات يستطيع ان يشرف وينفذ هذه العملية بالشفافية والعدالة المطلوبة لذلك المطلوب اشراف شفاف من الهيئات الدولية.
وسألت اللواء ابن طرابلس عن وضع المدينة وما حصل فيها والتخوف من تفلت امني من بوابتها فأشار إلى أن صلب المشكلة الاساسي في طرابلس هو حرمان وفقر لا يطاق ومن عقود.
المطلوب التركيز على معالجة هذه الازمة المعيشية والاقتصادية التي يعاني منها ابناء المدينة اولاً فهذه الاولوية وعندها لا خوف من الانفجار.
تحصين وحماية طرابلس من الماجورين والمتآمرين الذين لا يمثلونها يكون في اعداد خطة انقاذ ونمو اقتصادي جدية لمحاربة الفقر والاهمال وتحفيز الحركة الاقتصادية وفرص العمل وهذا يجب ان ينطلق فوراً.
وتمنى لو أن السلطات واجهت احداث طرابلس باجراءات انمائية ودعم مادي واقتصادي طارئ بدل تحويل الانتظار الى اعمال شغب مدسوسة لا تمت الى المدينة بصلة.
على مثل هذه الخطة الانمائية ان تحرر فوراً الاعتمادات والموازنات الضرورية وتطلق المشاريع الانمائية النائمة في الادراج والتي وعد اهل طرابلس بها منذ سنوات بلا نتيجة، وأن تتضمن برنامجاً جدياً طموحاً لمكافحة الفقر المستفحل في المدينة ليس فقط بالمساعدات بل بالتاهيل وفرص العمل والعيش الكريم.
انا مثلاً اقترحت انشاء مجلس انماء طرابلس والشمال يكون مستقلاً وشفافاً وباشراف ودعم مؤسسات دولية وان توضع المؤسسات الاقتصادية الحيوية في الشمال تحت اشراف هذا المجلس.
على ان يتم تخصيص وضخ ٢٠٠ مليون د. مثلاً تتوزع بين قرض من البنك الدولي وهبات ومستثمرين لتنفيذ الخطة والمشاريع القابعة في الادراج.
وعلى ان يتم ملء الفراغات في المؤسسات الحيوية فوراً باشخاص من الكفاءات لا ارتباطات سياسية لهم ومهمتهم العمل على تنفيذ المشاريع الانمائية واطلاق عجلة الانماء في المدينةً
وشدد على أن طرابلس لا تستحق ان تعيش من المساعدات فيها طاقات لامعة وشباب متألق ولديها مؤسسات وموارد وامكانات ممتازة كل ما تحتاج اليه هو خطة انمائية لاطلاق المشاريع الحيوية وتفعيل المؤسسات الانمائية تديرها كفاءات مستقلة وبتمويل خارجي شفاف. للاسف المدينة رهينة التجاذبات والابتزازات الاساسية ولذلك بقيت ما المشاريع والخطط حبراً على ورق.