يوحي التكتم الذي يحوط بمفاوضات تأليف الحكومة، ثم في ضوء ما رشح عن الاجتماع الأول بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، أن البلاد ربما مقبلة على حكومة لا تشبه الكتل الرئيسية التي اعتادت صنع الحكومات. بعضلات فرنسية هذا الاستثناء
مذ أجرى الرئيس المكلف مصطفى أديب الأربعاء 2 أيلول مشاوراته مع الكتل الرئيسية لتأليف حكومته، لا أحد يعرف بانقضاء ثلاثة أيام من مهلة الخمسة عشر يوماً، مَن يتفاوض مع مَن؟ حصل اجتماع واحد بين أديب ورئيس الجمهورية ميشال عون غداة المشاورات تلك كي يطلعه على نتائجها، غير ذات الجدوى في الأصل. لا يُعرَف بعد من أين سيأتي الرئيس المكلف بوزرائه، أو تهبط أسماؤهم عليه، ولا المرجعيات التي يقتضي تشاوره معها من بين الكتل، إذا كان ثمة دور لها كونها تمثّل الغالبية التي تمنح حكومته الثقة في مجلس النواب. ما خلا الأحاديث عن حكومة اختصاصيين، لا أحد يسعه التكهن بالحد الفاصل بين الاختصاصي والسياسي.
لعل المفارقة، أن اللبنانيين يعرفون مضمون البيان الوزاري للحكومة الجديدة، المنبثق من ورقة العمل الفرنسية، قبل أن يعرفوا أي حكومة ستبصر النور وممّن.
ما يبدو معلوماً حتى الآن في المسار الذي يسلكه التأليف – إذا صحّ أن التعهدات التي قطعتها الكتل الرئيسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء الفائت ذات صدقية – بضعة معطيات منها:
1 – نجاح تأليف الحكومة في مدة خمسة عشر يوماً كما قال ماكرون، أو أقل حتى، استناداً الى ما وعدته به القيادات اللبنانية، يُسجّل في ذاته سابقة غير مألوفة، بل تكاد لا تصدّق. ذلك أن القوى السياسية، القادرة على إزالة أي عراقيل في طريق تأليف حكومة وتسهيل اختيار وزرائها، هي نفسها التي تلاعبت منذ اتفاق الدوحة عام 2008 بتأليف الحكومات المتعاقبة، بدءاً بالمدة الدنيا مع حكومة الرئيس حسان دياب هذه السنة وهي 44 يوماً، ذهاباً الى المدة القصوى مع حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014 وهي عشرة أشهر و9 أيام. يعني ذلك أيضاً، دونما إعفاء أي رئيس مكلف منذ عام 2008، أن القوى السياسية لم تكن تسمح بتأليف حكومة لا تراعي حصصها فيها وتفرض وزراءها. لم يحدث ذلك في حكومات الوحدة الوطنية منذ اتفاق الدوحة فحسب، بل أيضاً في حكومة دياب التي لم تتمثل فيها الكتل تلك مباشرة، إلا أنها هي التي ألّفتها وأدارتها من وراء الستار وعرقلت مهماتها وفرضت على رئيسها استقالتها.
2 – في صلب مبادرة الرئيس الفرنسي، حكومة لا تشبه كل اللواتي سبقتها، بما فيها حكومة دياب التي تتقاطع معها في الظاهر فقط بتوزير اختصاصيين. لم يعد في الإمكان الاستعانة بأدوات الماضي. يقتضي بالحكومة الجديدة أن لا تكون على صورة الأحزاب الممثلة بالكتل النيابية الرئيسية، تتحكم بها في مجلس الوزراء وفي مجلس النواب. لذا تكمن أهمية اختيار الوزراء الجدد في المرجعية التي ستدلّ على أسمائهم، لا في الأحزاب التي ستكون هذه المرة في منأى عن الاختيار وفرض التسمية. الواقع أن مَن سيدلّ على سلة من الأسماء المرشحة مرجعية أقرب ما تكون في صلب الإدارة الفرنسية، الواسعة الإلمام والكثيرة التوغل، العارفة بأدق تفاصيل الداخل اللبناني. هو ما قد يصحّ على الاستخبارات الفرنسية التي يرأسها السفير السابق في بيروت برنار إيميه.
3 – مع أن المواصفات المعلنة للحكومة الجديدة أن تكون من اختصاصيين، إلا أن الأساس فيها أن لا يكون وزراؤها مناوئين للكتل أو استفزازيين لها، وفي الوقت نفسه ليسوا من اختيارها أو في عداد أعضائها، كي تتمكن الحكومة الجديدة من الاضطلاع بالمهمة المنوطة بها داخلياً وخارجياً، وهي إجراء الإصلاحات البنيوية في الاقتصاد والنقد. مواصفات كهذه هي الخيار الوحيد المطروح أمام الرئيس المكلف. ما خلا ذلك سيكون أمام الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة. وطأة الضغوط الدولية انطلاقاً مما تمثله المبادرة الفرنسية، كفيلة بأن لا تقوده إلا الى السيناريو الجيد.
4 – سيكون من السذاجة الاعتقاد أن الرئيس الفرنسي لم يُعدّ لمبادرته بعناية – ناهيك بالأميركيين – مع كل من إيران والسعودية، الدولتين القادرتين على ممارسة حق النقض في تأليف حكومة لبنانية، وإن بتأثير متباين: في وسع إيران من خلال الثنائي الشيعي منع تأليفها تماماً، وهو الدور الأقدر على الاضطلاع به حزب الله، فيما في وسع السعودية إحالة الحكومة الجديدة عاجزة كلياً عن أداء أي دور الى حد إصابتها بالشلل، عبر إيصاد أبواب الخليج في وجهها، وعدم محضها الاعتراف – السنّي الحتمي والضروري – بها على نحو ما رافق حكومة دياب من يومها الأول حتى استقالتها. ذلك ما خبرت قسماً أساسياً منه حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2019 حتى استقالتها نهاية العام، بافتقارها الى الغطاء الذي اعتاده من الرياض. استطاعت المملكة أخيراً فرض فيتو على عودته الى السرايا، وحرمته حق التسمية من داخل تيار المستقبل حتى، من غير أن يجرؤ على مواجهتها. لم تعترض على أديب مثلما لم تعترض قبلاً علانية على دياب، مكتفية بإغلاق الأبواب في وجهه. حاجة الدور الفرنسي الى الرياض وطهران مرتبطة ليس بتسهيل تأليفها فحسب، بل إتاحة الفرصة أمام الحكومة الجديدة لإخراج لبنان من عزلته الإقليمية والدولية الخانقة، مضاعفة في اختناقه الاقتصادي والأمني.
5 – منذ انفجار مرفأ بيروت تمرّ الكتل الرئيسية في مرحلة فقدان توازنها، ومقدرتها على الإمساك باللعبة الداخلية التي أفلتت من عقالها. قبل 4 آب بدا من المؤكد أن يستمر الاختناق الداخلي الى أمد غير معروف، بالتزامن مع الانهيارين الاقتصادي والنقدي، ناهيك بتضاؤل دور الحراك الشعبي وضموره الى حد بعدما أضحى ثمة شارع قبالة شارع. كان في وسع الكتل تلك الاستمرار مع حكومة دياب الى ما شاء الله، والتلاعب بها، ومنعها من إقرار أي إصلاح بنيوي يلحّ عليه المجتمع الدولي. بعد انفجار المرفأ، تكشفت عن الكتل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية حيال ما حدث. بذلك فقدت المخالب التي اعتادت نشبها في المعادلة الداخلية منذ اتفاق الدوحة. صار من السهولة بمكان الاستماع الى مراجع ومسؤولين يقولون إنهم لا يتمسكون بحقائب، كانت حتى حكومة دياب أقرب ما تكون الى حقوق وأصول لهم. كذلك الأمر بالنسبة الى الحصة في مجلس الوزراء. صار من البساطة تقبّل إجراء مداورة في الحقائب السيادية والأساسية بلا أدنى اعتراض.