لبنان يعود من ” ليلة السحر” الفرنسي الى الواقع صباح اليوم التالي. ولم يكن الرئيس ايمانويل ماكرون يجهل ان نجاحه في دور “الساحر” في بيروت يتوقف على التكيف مع الواقع. فالارنب الذي خرج من القبعة ومعه برنامج عمل حكومي محكوم بالتعامل مع دهاة جشعين والحذر من صيادين ينتظرونه في غابة المصالح. وصاحب القبعة الذي قال إنه يضع “رأسماله السياسي” على الطاولة في “رهان محفوف بالمخاطر” كان ينظر الى الذين تحادث معهم، فيرى القوى الإقليمية والدولية التي وراءهم، ويدرك دقة اللعبة حتى في تأليف حكومة لبلد “مهدد بالزوال”.
ذلك ان ماكرون اضطر في زيارته الثانية لخفض السقف في زيارته الاولى. فهو في حاجة الى دعم اميركا التي “تشاركه في الاهداف” حسب وزير الخارجية مايك بومبيو، لكنه لا يستطيع الذهاب معها الى مطالبها القصوى المتعلقة بـ”حزب الله” وسلاحه. وفي حاجة الى ايران، لكنه يدرك خطر نفوذها في لبنان على الوطن الصغير والمصالح الفرنسية. وفي حاجة الى السعودية، لكنه يرى ان المرحلة الحالية ليست للاصطدام بقوى الأمر الواقع. وما حدث هو تأجيل البحث في التغيير السياسي ضمن البرنامج الاصلاحي، والاكتفاء بالاصلاحات المالية والاقتصادية والاعمارية الملحة. وما تأكد هو اعادة الاعتبار الى التركيبة السياسية “الفاسدة” شرط التسليم بـ”حكومة مهمات” تضم اختصاصيين.
حتى هذا الاصلاح المختصر، فان التركيبة السياسية لم تقبله الا مكرهة. اذ لا احد لديه طريق آخر لمنع انهيار المسرح اللبناني تحت الجميع. ولا بديل من صندوق النقد الدولي سوى “صندوق باندورا” الذي يحوي كل شرور العالم. والخيارات مجرّبة: حكومة يهيمن عليها “حزب الله” وصفة للعزلة والانهيار. حكومة ضد “حزب الله”، “بروفة” لحرب أهلية وإقليمية. حكومة ملغومة ومموهة هي نسخة ثانية من حكومة حسان دياب الفاشلة التي ضيعت ثمانية شهور في عز الحاجة الى السرعة، حيث “الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك” كما يقول المثل. وحكومة اختصاصيين تعبير حمّال أوجه. ولا شيء يؤكد، برغم استعارة الجميع اجنحة الملائكة، ان “حليمة لن تعود الى عادتها القديمة” في المحاصصة والتعطيل.
والسؤال البسيط هو: ماذا لو حدث امر كبير طارئ ينشغل به ماكرون؟ ماذا عن تطورات الصراع في شرق المتوسط على النفط والغاز، حيث تلعب روسيا واميركا وتركيا واليونان ومصر وفرنسا وسواها؟ اليس التراجع عن اخراج لبنان من صراعات المنطقة إشارة الى صعوبة التخلص من “توطين” الصراعات والادوار الخارجية في لبنان؟
الناس تأمل في حكومة توقف السطو على المال العام والخاص. لكن مشروع السطو على لبنان كبلد، لا يزال قائماً. ولا امل في الانتقال مما سماها سان سيمون “حكومة الاشخاص” الى ما سماها فريديريك انغلز “ادارة الاشياء”.