IMLebanon

حكومة للإنقاذ .. أم لإدارة الانهيار؟

 

تقترب مهلة ايمانويل ماكرون «الحكومية» من نهايتها، في وقت لا يلوح في الأفق ما يشي بأنّ التربة باتت مهيأة لتسوية سياسية، تجنّب لبنان اضاعة فرصة جديدة – قد تكون الأخيرة – لمنع الانهيار أو ربما الانفجار.

صحيح أنّ عملية التأليف تسير هذه المرة ضمن أطر مختلفة عن سابقاتها، سواء داخلياً، حيث تشي الاتصالات التي يجريها مصطفى أديب بأنّ الرجل يعمل وفق قاعدة «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، أو خارجياً، حيث يشكّل الضغط الفرنسي عنصراً مستجداً، اعاد إلى أذهان كثيرين تجربة حقبة الوصاية السورية، وهو ما يتبدّى في سيل التصريحات الصادرة من باريس، ومعها تسريبات ديبلوماسية حول رسائل تحذير خارجية من مغبّة المناورة على الطريقة اللبنانية.

 

برغم ما سبق، لا تزال الطبقة السياسية في لبنان تتعامل بحالة الإنكار نفسها، التي ميّزت أداءها منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، عبر تكرار لسرديات من قبيل وجود «النية» و»القرار الحاسم» بالمضي في الإصلاحات ومحاربة الفساد، بجانب ثقة مفرطة بأنّ المجتمع الدولي لن يتخلّى عن لبنان، ناهيك عن نغمة متجدّدة تستحضر النَفَس الأردوغاني في التحذير من مغبة ترك البلد يواجه مصيره وحيداً من بوابة «شبح» اللاجئين المتدفقين من لبنان إلى أوروبا.

 

كل ذلك، يجعل مقاربات تشكيل الحكومة الجديدة أسيرة بازار التوازنات بمختلف تسمياتها، سياسية كانت أم طائفية، والتي يتجدّد معها الجدل – خلف الأبواب المغلقة هذه المرة – بين رغبة الرئيس المكلّف في تشكيل حكومة اختصاصيين من فريق صغير ومتجانس، وفق الرؤية الفرنسية، للشروع في إعادة الإعمار والمضي في خطة الاصلاحات، وبين رغبة رئيس الجمهورية في حكومة على شاكلة حكومة حسان دياب، إن في حجمها أو في شكلها والحصص الخاصة لكل فريق سياسي داخلها.

 

حتى الآن، ليس من الواضح بأيّ شكل ستبصر الحكومة الجديدة النور، ففكرة الأربعة عشر وزيراً تبدو مستبعدة، بحسب ما تسرّب من اللقاءات الأخيرة بين الرئيسين عون وأديب، وفكرة الأربعة وعشرين وزيراً ربما تترك انطباعاً بأنّ حكومة حسان دياب قد خرجت من الباب لتدخل مجدداً من الشباك، وإن تغيّرت وجوهها.

 

على أيّ حال، فإنّ الشكليات ربما يمكن تجاوزها في اللحظة الأخيرة من انتهاء المهلة الماكرونية، تماماً كما حدث حين هبط اسم مصطفى اديب فجأة على المشهد السياسي، قبل ساعات من الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي إلى بيروت، وقد تفضي اتصالات الساعات أو ربما الأيام القليلة المقبلة، إلى قواسم مشتركة تتيح تشكيل الحكومة الجديدة.

 

مع ذلك، قلة من المتابعين في الداخل والخارج تتوقع ألّا يشكل التشكيل الحكومي الجديد انعطافاً نحو مقاربة وطنية جامعة لإنقاذ لبنان مما حلّ به اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. في أفضل الأحوال، تذهب مصادر ديبلوماسية عربية وغربية إلى القول، إنّ حكومة مصطفى اديب ستكون نسخة منقحة من حكومة حسان دياب، من خلال وجوه جديدة قد تكون مفيدة في رأب الصدع في جسر الثقة المتهالك بين الحكم والشارع، ما يعني أنّ الحكومة الجديدة، إن ولدت وفق الرؤية الفرنسية، ستكون مهمتها إدارة الانهيار وليس الانقاذ بمعناه الشامل.

 

ما سبق يعود بشكل أساسي إلى أنّ التوافق الوطني ما زالت دونه الكثير من العقبات الداخلية والخارجية، وهو أمر ينسحب على الأساس الذي يمهّد الطريق اليوم لتشكيل الحكومة الجديدة، والمقصود بذلك المبادرة الفرنسية، التي لا تزال حتى اليوم، وبرغم اندفاعة الرئيس ماكرون، مجرّد جنين، قد لا يكتمل تكوّنه وفق المأمول فرنسياً، خصوصاً انّ الحراك الفرنسي قائم بالأساس على استفادة قصيرة الامد من انشغال الولايات المتحدة بانتخاباتها الرئاسية، وتركيزها على ملفات تشكّل أولويات أساسية في السباق بين دونالد ترامب وجو بايدن إلى البيت الأبيض.

 

بهذا المعنى، فإنّ المبادرة الفرنسية لا يمكن اعتبارها أكثر من هدنة مرحليّة، سقفها الزمني هو منتصف شهر تشرين الثاني المقبل، حين تحسم الصناديق الأميركية هوية من سيسكن البيت الأبيض، وهو أمر يفرض نفسه بقوة على أجندة ايمانويل ماكرون اللبنانية، بدليل اختياره مطلع كانون الأول المقبل موعداً لزيارته البيروتية الثالثة، والتي ستتحدّد خلالها آفاق الوضع في لبنان والشرق الأوسط، والتي على أساسها يمكن انتزاع وقت مستقطع جديد، سقفه الزمني شهر شباط العام 2021، حين تتحدّد الاستراتيجيات الجديدة أو المحدثة في السياسة الخارجية الأميركية، سواء تمّت عملية التسليم والتسلّم بين ترامب وبايدن، أو في حال ظفر ترامب بولاية رئاسية ثانية.

 

بهذا المعنى، فإنّ لبنان قد يكون حالياً أمام الفرصة الأخيرة لتسوية الوضع الداخلي بما يسمح بتحصين وضعه، ولو قليلاً، من خلال الاعتماد على «الأم الحنون»، تمهيداً لاستحقاقات خارجية، من المؤكّد أنّها ستكون أكثر خطورة، حين تنتهي فترة السماح الأميركية الموضوعية، التي تعطي الفرنسيين اليوم هامشاً مقبولاً للتحرّك، وفق أجندة أقل عدائية من الأجندة الأميركية، التي حمل ديفيد شينكر قبل أيام بعضاً من رسائلها، ولا سيما في ظلّ تهيب قوى داخلية عدة لاقتناص فرصة اخفاق المبادرة الفرنسية لمحاولة فرض اجندات داخلية تحت عناوين واضحة، تتفاوت تسمياتها بين «اللامركزية الموسعة» و«الفدرالية»، وبينهما محاولات لإلباس شعار «حياد لبنان» رداءً حديدياً يتطابق مع التوجّهات الإقليمية المدعومة أميركياً لجعل القضية الفلسطينية شيئاً من الماضي.

 

هل يتمكن اللبنانيون من اغتنام الفرصة الأخيرة قبل الدخول في نفق المجهول؟

 

ثمة أسباب كثيرة تدفع إلى خفض سقف التوقعات، لا سيما أنّ المقاربات الحكومية والسياسية والاقتصادية ما زالت رهينة قواعد اللعبة السياسية الموروثة، والتي انتهت صلاحيتها عملياً بعد انفجار بيروت، في وقت لا يزال البعض في لبنان مصراً على احيائها وهي رميم.

 

انطلاقاً من سقف التوقعات المنخفض هذا، لا يمكن اعتبار ما يجري اليوم في لبنان إلّا مجرّد هدنة مؤقتة، تتبدّى هشاشتها في مسلسلات الاشتباكات الأمنية المريبة، والتي ربما يريدها البعض بروفة لانفجار كبير مدفوع بكابوس اقتصادي ومعيشي مستمر، أحدث فصوله الحديث عن رفع الدعم عن السلع الرئيسية.

 

هل السيناريو الأسود بات قدراً محتوماً؟

 

قد لا يكون الأمر على هذا القدر من التشاؤم، فالفرصة الأخيرة ما زالت قائمة، والأيام المقبلة قد تحدّد ما إذا كانت الطبقة السياسية ستتلقفها بدلاً من تلقف كرة النار وتبادلها. بهذا المعنى، فإنّ التشكيلة الحكومية الجديدة ستكون العنوان الذي ستُقرأ الرسالة اللبنانية من خلاله، ولعلّ تركيبتها أولاً، واداءها ثانياً، سيكون المحدّد لامكانية الخروج من النفق أو التوجّه بتذكرة ذهاب بلا إياب إلى الجحيم.