كان لبنان لا يزال غارقاً في كارثة الانفجار الذي دمر المرفأ ونصف العاصمة بيروت، عندما صعد مصطفى أديب الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة قبل أيام إلى بعبدا لمقابلة الرئيس ميشال عون والتشاور في مهمته الدقيقة، لكن سرعان ما تبيّن أن كل ما قيل في خلال زيارتَي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن ضرورة تشكيل «حكومة مهمة» حُددت مهماتها بوضوح في المحادثات مع عون ومع ممثلي القوى والأحزاب السياسية التسعة، لكي تقوم بانتشال لبنان من أزمته المصيرية، قد وُضع جانباً في بعبدا!
ذلك أن عون بدا وكأنه يريد صيغة حكومية تحاكي حكومة حسان دياب، التي شُكلت وفق دفتر شروط «حزب الله»، فهو يقترح صيغة حكومة موسعة من 22 إلى 24 وزيراً، وأن تكون من اختصاصيين سياسيين، وهو ما يتناقض كلياً مع كل ما قيل عن حكومة اختصاصيين مصغرة، بعيدة عن العقد والشروط السياسية، وهو ما يتناقض مع اقتناع مصطفى أديب بأن حكومة المهمة يحب ألا تتجاوز 14 وزيراً من خارج المنظومة السياسية وبعيدة عن التأثر بها؛ لكي تتمكن فعلاً من البدء بعملية النهوض، واستعادة الثقة الدولية التي دمرتها الحكومات السابقة.
بدا أن كل ما قيل أمام ماكرون عن «حكومة مهمة» تنخرط فوراً في محاربة الفساد الذي أفلس الدولة، وكأنه مجرد تكرار للوعود الفارغة التي لطالما سمعها العالم ولم تنفذ، رغم أن لبنان ينوء أمام سلسلة من الكوارث لا تتوقف على فاجعة المرفأ، ولا على جائحة كورونا، ولا على الأزمة الاقتصادية المستفحلة التي جعلت 50 في المائة من اللبنانيين تحت خط الفقر، ولا على توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بسبب عجز الدولة عن الاتفاق على رقم موحد لخسائرها المهولة طبعاً، ولا على غرق البلاد في ثورة شعبية ضد كل المنظومة السياسية الفاسدة والمهترئة كما قيل على لسان وزراء في الحكومة المستقيلة، بل على ما هو أخطر وأهم، وهو يأس دول العالم من سرطان الفساد السياسي، ومن الانحياز الأعمى إلى تيار الممانعة؛ ما أقفل على لبنان كل نوافذه العربية والخليجية والدولية.
كان الانفجار المروّع في المرفأ مناسبة لعودة الاهتمام الدولي، خصوصاً الفرنسي بالوضع المأسوي، لكن ما لا يصدق أن البعض لم يستيقظ على هول ما جرى، ولا على ضرورة قلب الصفحة السوداء، ولا توقف جيداً عند تكرار الرئيس الفرنسي في خلال زيارتيه، أنه إذا لم يبدأ الإصلاح الحقيقي الذي يفترض أن تقوم به حكومة من خارج الغابة السياسية، فإنه لن يكون هناك تساهل إطلاقاً من كل الطقم السياسي الذي سيتعرض إلى سلسلة من العقوبات الموجعة، وأنه ينسّق في هذا مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتكون هذه العقوبات فعّالة أكثر!
كان من المستغرب فعلاً أن يفهم البعض أن زيارة ديفيد شينكر إلى بيروت، إنما هي لإفشال المبادرة الفرنسية، ولم يفهموا أن الرئيس ماكرون عندما يهدد بالعقوبات فهو يعرف أن فرنسا وحدها لا تقدر على هذا، وأنها تراهن على العصا الأميركية الغليظة التي تطاول إيران و«حزب الله» وتهدد حلفاء الحزب في لبنان، فالقصة هنا لا تتوقف عند حصة لبنان من «قانون قيصر» فحسب، بل وصلت إلى التهديد بتنفيذ بنود «قانون ماغنيتسكي» على لبنان، وهو ما يصل إلى فرض العقوبات على تبييض الأموال.
سافر ماكرون على خلفية القول إنه يجب تشكيل حكومة المهمة خلال 15 يوماً، لكن سريعاً اصطدمت سفينة التشكيل بأرخبيل العُقد إياها، أي حكومة موسعة لها بُعدها السياسي، الغاية الواضحة منها محاولة الاحتفاظ بعنصر التعطيل الذي أدخله «اتفاق الدوحة» على «اتفاق الطائف» الذي يشكّل دستور البلاد، وهذا العنصر كان فُرض بفائض القوة، وهو يتمثّل بما يسمّى «الثلث المعطّل»، الذي أمسك به تحالف عون مع الثنائية الشيعية، فأسقط كل حديث عن «إعلان بعبدا» وسياسة «النأي بالنفس» وأقفل الباب على كل الوعود التي أطلقها عون حول بحث «الاستراتيجية الدفاعية».
وعلى امتداد الأيام العشرة الماضية، حاول الرئيس المكلّف التكتم على مساعيه، في حين ظل الحديث قائماً حول إصراره على صيغة حكومة اختصاصيين مصغرة من 14 وزيراً، وظلت مصادر عون تتحدث حكومة تكنوسياسية موسعة، ولا تخفي أنه ممتعض من الطريقة المتكتمة التي يدار بها التشكيل، بعيداً عن بعبدا ورأي التكتل النيابي الذي يمثله «التيار الوطني الحر»، بينما كان السفير الفرنسي برونو فوشيه ينشط في التوسط بين الجانبين، وفي السياق نفسه قالت مصادر بعبدا قبل أيام إن عون يرفض ما يتردد عن سعي فرنسا، إلى إسناد الحقائب التي استأثر بها تحالفه، وهي المالية والطاقة والاتصالات والخارجية إلى أسماء من دون العودة إليه رغم تأييده المبادرة الفرنسية وتعهده لماكرون بالمساعدة في تشكيل «حكومة المهمة»!
مع الإعلان عن أن الثنائية الشيعية تتمسك بوزارة المالية، وبعد كل ما رددته مصادر بعبدا عن حكومة تكنوسياسية، بدا أن الأمور تدور في حلقة مفرغة، وتردد أن المدير العام لجهاز الاستخبارات الفرنسي برنار ايمييه السفير الفرنسي الأسبق لدى لبنان، زار بيروت قبل أيام لمحاولة دفع مهمة التشكيل، لكن مصادر دبلوماسية تقول إن مساعيه اصطدمت بالعراقيل إياها!
وقد يكون ضرورياً هنا التوضيح، أن مصطفى أديب هو صهر أحد المستـشارين في قصر الإليزيه وتربطه علاقة دافئة مع إيمييه، الذي لعب دوراً في اقتراح اسمه على رؤساء الوزراء السنة السابقين الذين سمّوه عشية الاستشارات!
أمام العراقيل التي تواجهها عملية تشكيل الحكومة، تتواتر معلومات تقول إن الرئيس المكلف يصر على حكومة اختصاصيين مصغرة، فإما أن يقبلها عون وإما أن يحزم حقائبه حتى من دون أن يعتذر عن عدم التشكيل، بما قد يضع العهد أمام فراغ حكومي مديد في وقت قد تنحدر البلاد إلى الفوضى الكاملة بسبب التردي الاقتصادي والجوع الزاحف في البلاد.
يوم الثلاثاء الماضي كان واضحاً أن إعلان واشنطن العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل الذي يمثل «حركة أمل»، ويوسف فنيانوس من «تيار المردة» والمقرب من النائب السابق سليمان فرنجية المتحالف مع «حزب الله»، جاء بمثابة تحريك للجرافة الأميركية لإزالة العقبات أمام حكومة اختصاصيين، التي يراهن اللبنانيون على أن تشكّل مدخلاً لقلب الصفحة السياسية السوداء في لبنان.
ومع صدمة الإعلان عن العقوبات على الوزيرين، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية «أن واشنطن يهمها تشكيل حكومة قادرة على استجابة مطالب الشعب اللبناني»، وجدد مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر تلويحه بأن «هناك سلسلة من العقوبات الأميركية ستعلن أيضاً في خلال أيام على داعمي (حزب الله)، وسنحاسبهم»، بما أوحى أن هناك محاولة لفكفكة تحالف عون والثنائية الشيعية، وخصوصاً أن اسم صهره جبران باسيل قد يكون في مقدم لائحة العقوبات.
شينكر حدد جلياً ما هي وظيفة «حكومة المهمة» أو ما هي المهمة التي من الواضح أن هناك اتفاقاً فرنسياً – أميركياً عليها، عندما قال يجب أن تتبنى الحكومة الجديدة البرنامج الإصلاحي وأن تنفذه، «عليها محاسبة من لم يتحلوا بالشفافية أو من لم يخضعوا للمساءلة. يجب أن تكون حكومة مكرسة لمحاربة الفساد، ويجب أن تتمسك بمبدأ النأي بالنفس. ينبغي أن تكون حكومة تخرج من سياسات دول المنطقة، ونحن سنعمل مع أي حكومة إذا قامت بهذه الأمور والتزمت بها».
يشكل كلام شينكر صيغة مكررة لوظيفة «حكومة المهمة» كما حددها ماكرون بالتفصيل؛ ولهذا يبرز السؤال، هل ستساعد العقوبات الأميركية المتسلسلة على إزالة العراقيل التي تواجه مهمة الرئيس المكلف، والتنسيق هنا واضح بين باريس وواشنطن، أم أنها ستعقّد مهمته، عندما يصر تحالف «8 آذار» بقيادة «حزب الله» على موقفه من الحكومة فتتمسك «حركة أمل» بوزارة المال، و«المردة» بوزارة الأشغال، و«التيار الوطني الحر» بوزارة الطاقة التي كلفت لبنان نصف دينه العام، أي ما يتجاوز 50 مليار دولار، و«حزب الله» بوزارة الصحة، فيما يمثّل رداً على العقوبات الأميركية، على قاعدة المراهنة الإيرانية المعروفة، على أن الانتخابات الأميركية على الأبواب وقد تغيّر من المشهد رغم الموقف الفرنسي الحازم؟
يوم الثلاثاء المقبل تنتهي مهلة الـ15 يوماً التي حددت أنها لتشكيل الحكومة، فهل يصعد مصطفى أديب مع تشكيلة حكومة المهمة ويقبلها عون، أم أنه سيرفضها على الأغلب، فيخرج أديب إلى اعتذار، بل إلى اعتكاف طويل، ويغرق العهد والبلد في فراغ أطول، أم يذهب الجميع إلى فوضى عارمة لا تقتصر على المجاعة فحسب مع الملامح التصعيدية النارية المتزايدة، التي قد تعيد بلد الجائعين إلى المتاريس؟