صحيح انّ الاتفاق الأميركي – الإيراني لم يوقّع بعد، لكن الجميع بدأ يحسب لِما بعد الاتفاق. ذلك انّ المرحلة اللاحقة ستكون حافلة بمشاريع التسويات لساحات تفتك بها الحروب والمواجهات وتتنازعها المصالح المتضاربة للقوى الإقليمية.
وباكورة هذا المسار جاءت على لسان وزير الخارجية الاميركي جون كيري نفسه حين تحدث عن وجوب التفاوض مباشرة مع الرئيس بشار الاسد في إشارة واضحة الى اعتراف أميركي علني بأنه سيكون جزءاً أساسياً من الحل السوري.
وعلى رغم المواقف التي تلت كلام كيري، والتي هدفت الى استيعاب ردود الفعل الحاصلة واختصاصها، فإنّ الوفود الاميركية والاوروبية، لا سيما الفرنسية التي زارت دمشق، كانت قد أعطت مؤشرات مبكرة للترتيبات الجارية في المنطقة تحضيراً للمرحلة المرتقبة.
في العراق معارك سرية لم تنجح حتى الآن طهران في حسمها، ما يعني انّ الحكومة العراقية ستضطر لطلب المساعدة الجوية الاميركية، والتي سيكون ثمنها قواعد عسكرية جديدة للأميركيين بالقرب من منابع النفط في شمال العراق. على أن يظلّل هذا الواقع نظام سياسي جديد في العراق يقوم على أساس الاعتراف بدولة العراق الفدرالية، أو الإقرار بمناطق نفوذ ضمن الدولة الواحدة.
وفي سوريا شيء من هذا القبيل يجري التحضير له، بما معناه استعادة فكرة استنساخ تجربة اتفاق الطائف في لبنان على الواقع السوري، أو بما بات يعرف بتطبيق «طائف سوري» على مستوى الدولة لناحية منح صلاحيات حقيقية لرئيس الحكومة السني وتؤخذ من رئاسة الجمهورية التي ستبقى بيَد بشار الأسد ومستقبلاً بيَد الطائفة العلوية. على أن تكون الحقائب العسكرية والامنية من حصة الرئيس، فيما الحقائب الانمائية والاقتصادية من حصة المعارضة.
امّا على الارض فتحظى المناطق بما يشبه السلطات الذاتية للقوى التي تسيطر عليها، مع الإقرار بمرجعية الدولة، ولكن بعد طرد داعش من سوريا، فيما يبدو انّ تنظيم النصرة سيتحضّر لحسابات أخرى صاغَتها اسرائيل بعناية تحت عنوان إقامة شريط حدودي يحفظ مصالحها الامنية.
ولبنان لن يشذ عن القاعدة ولَو انّه سينتظر، اضافة الى الاتفاق الاميركي – الايراني، بدء التواصل السعودي مع طهران.
حالياً تبدو الأبواب موصدة، في وقت يشتد فيه الصراع في اليمن. لكنّ هذا الصراع قد لا يأخذ وقتاً طويلاً قبل ان يرسم خطوطه على الارض، ما يفتح الابواب امام الترجمة السياسية من خلال معادلة جديدة للحكم تقوم على أساس اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، ولَو ضمن إطار الدولة الواحدة.
امّا في لبنان، فإنّ الوصول الى تسوية الامر الواقع سينتظر التواصل السعودي – الايراني والذي لم يعد بعيداً خصوصاً بعد توقيع الاتفاق الاميركي – الايراني.
لكنّ فترة الانتظار هذه ستكون حافلة بالحماوة السياسية التي ستشكّل ذروتها المدخل المطلوب للوصول الى التسوية. في أي حال بدأت عوارض الحماوة السياسية تصيب الحكومة. فمؤخراً تعطّلت جلسات مجلس الوزراء لثلاثة اسابيع بسبب آلية اتخاذ القرارات.
المشكلة قد يبدو ظاهرها ادارياً بحت، لكنها في العمق أزمة سياسية بامتياز حول كيفية امتلاك القرار تمهيداً للإمساك بالادارة الامنية والعسكرية والسياسية في البلد.
وهذا ما يعطي انطباعاً بأنّ الحكومة أضحَت أضعف من قدرتها على الاستمرار في ادارة البلد بتناقضاته الكبيرة، خصوصاً في مرحلة الاستعداد الاقليمي لنَسج تسويات شاملة.
وهذا ما سيظهر قريباً في الصراع حول التعيينات الامنية والعسكرية، وسينعكس حماوة سياسية وتعطيلاً للحكومة وربما تهديداً لاستمرارها.
التوافق الذي ساد حول تعيينات لجنة الرقابة على المصارف لم يكن «بريئاً» بما فيه الكفاية. فهنالك من أراد من خلاله فتح مسار التعيينات كلها، وفي طليعتها التعيينات الامنية.
لكنّ الاعتراضات التي تقف حائلاً بوجه ذلك متنوعة. بعضها لحسابات الحكومة مع العماد ميشال عون، وبعضها الثاني لرفض حصول تغيير في عزّ المواجهات العسكرية، والبعض الثالث لحسابات خاصة، والبعض الاخير وهو الأهمّ لربط التعيينات الامنية بإنجاز الاستحقاق الرئاسي وجَعلها مفتاح «القفل».
الذين التقوا العماد ميشال عون لمسوا منه حيرته لبقاء الباب موصداً أمام حصول التعيينات، على رغم انه سمع «إيجابيات بالجملة» من الفرقاء السياسيين الذين التقاهم وتواصَل معهم. «أريد ان أعرف من الذي يكذب؟».
وتردد انّ العماد عون التقى أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله خلال الساعات الماضية بطلب منه. ويقال انّ السيد نصرالله أبلغه انّ حزب الله سيسير خلف العماد عون في موضوع التعيينات، الّا انّ الخط الاحمر هو عدم الوقوع في فراغ على مستوى القيادات الامنية، ولا سيما قيادة الجيش.
هنالك من يقول انّ ملف التعيينات الامنية لن يبحث الّا في إطار التسوية السياسية الشاملة، والتي تتضمن في أوّل بنودها انتخابات رئاسة الجمهورية. ويلقى هذا الموقف تأييد واشنطن وباريس.
لكن قبل ذلك، سيذهب العماد عون الى المربّع الصعب، وهو ما اعتاد عليه دائماً. سيجمّد حضور وزراء التيار الوطني الحر في جلسات مجلس الوزراء، وقد يذهب للأبعد.
هذا الواقع قد يدفع لفتح الملفات كلها دفعة واحدة. لكن المشكلة انّ عون لا يثق بوعود والتزامات الفرقاء الآخرين، والعكس صحيح ايضاً.
حماوة سياسية قد تفتح الأبواب الرئاسية الموصدة بشرط فتح أبواب التواصل بين الرياض وطهران، وهو ما لم يعد بعيداً ايضاً.
تبدو التسوية المفترضة أصبحت معروفة وتتراوح ما بين الرئاسة والحكومة والحقائب وقانون الانتخابات وصولاً الى قيادة الجيش. فيما يرجّح البعض ان يكون موعد الشروع بها ما بين حزيران وايلول، طبعاً بعد اشتداد الحماوة السياسية.