IMLebanon

المفتشية العامة الإدارية هكذا أعادتها الأزمات سنوات الى الوراء

 

 

كثيرة هي الملفات التي غالباً ما تُطوى إما بعد محاسبة من نوع «رفع العتب» أو بدونها على الإطلاق. توظيفات غير شرعية وقبلها وبعدها مخالفات هيئات وإدارات عدّة، ما هيئة إدارة السير والآليات والمركبات سوى إحداها، نسمع عنها دائماً وأبداً. ليست حالات كتلك الأولى ولن تكون، على الأرجح، الأخيرة. المفتّشية العامة الإدارية هي من حيث المبدأ الجهة التي تضطلع بالدور الرقابي في هذا المضمار. لكن لماذا لا تصل الأمور إلى خواتيمها؟ هل هي حدود الصلاحيات أم عراقيل أخرى تحول دون تحقيق المبتغى؟

 

تعريفاً، يتمثل دور التفتيش الإداري بمراقبة عمل الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات واتحاداتها، والحرص على انتظام العمل فيها لناحية الدوام والالتزام بأخلاقيات الوظيفة العامة والسهر على حسن تنفيذ القوانين التي ترعى عمل الإدارة وتأمين المشورة والمساندة لها عفواً أو بناء لطلبها. وقد نصّت المادة 13 من المرسوم الاشتراعي لإنشاء التفتيش المركزي رقم 115/1959 على صلاحيات المفتّشية العامة الإدارية، كما حدّدت المادة العاشرة من مرسوم تنظيم التفتيش المركزي رقم 2460/1959 مهمة المفتّشية العامة الإدارية في الحقل الإداري المحض، من خلال مراقبة سير العمل في كل وحدة إدارية من الوحدات الخاضعة لرقابة التفتيش.

 

للإضاءة أكثر على هذه التفاصيل وغيرها، كان لـ»نداء الوطن» حديث مع المفتّش العام الإداري، السيّد مخايل فياض. وهذا ما سمعناه.

 

المعوّقات… أزمات وتقصير

 

كسائر مفتشيات التفتيش المركزي، يعاني التفتيش الإداري من انعدام واضح للتسهيلات المتوفرة لا سيما في ظلّ الأزمة الاقتصادية وانخفاض قيمة العملة الوطنية. وهي سمة طاغية على معاناة الأعم الأغلب من الإدارات. «كما هو معروف، تتم موازنة التفتيش المركزي وفق القاعدة الاثنتي عشرية على أساس موازنة العام 2019 – وهي آخر موازنة مصدّقة – وتكاد اعتمادات تلك الموازنة لا تكفي شهراً واحداً من الإنفاق العادي المقنّن قياساً إلى انخفاض القيمة الشرائية للّيرة اللبنانية إلى 5% من قيمتها عشية 17 تشرين الأول 2019»، كما يبادر فياض بالقول.

 

المعوّقات، كما يبدو، جمّة. أوّلها عدم الاستقرار الوظيفي الذي تعيشه غالبية المفتّشين الإداريين بسبب تدنّي رواتبهم إضافة إلى التجاهل المزمن لحقوق اكتسبها التفتيش الإداري وتغاضت عنها الحكومات المتعاقبة منذ العام 1998. هنا يعلّق فياض: «لقد نصّت الفقرة التاسعة من المادة الخامسة من المرسوم الاشتراعي رقم 115/59 على انقطاع الموظفين فور تعيينهم أو انتدابهم عن أي عمل مأجور أو وظيفة في الإدارات العامة، شرط أن يتقاضوا، مقابل ذلك، تعويضاً يُحدَّد مقداره بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء. غير أن التعويض الذي كان محدَّداً بنسبة 75% من الراتب أُلغي مع الإبقاء على الانقطاع».

 

معضلة أخرى في هذا الإطار تتعلق بتعويض بدل النقل المقطوع الذي يستفيد منه المفتّشون الإداريون في مدينة بيروت والذي ما زال مُحدَّداً بمبلغ مائة ألف ليرة وهو مبلغ لا يسمح بالتنقّل ولو لمرّة واحدة، إضافة إلى تعويض آخر يُسمَّى بدل الانتقال والذي ما زال مجمَّداً على أساس الحدّ الأدنى للأجور بقيمة 112 ألف ليرة. أما بدل النقل، فحدّث ولا حرج. إذ يتعذّر انتقال المفتّشين بسياراتهم الخاصة للقيام بالجولات المكلّفين بها على الإدارات، لأن المبلغ الذي يتقاضونه من الإدارة، لغاية تاريخه، هو 195 ليرة للكيلومتر الواحد، في حين أن كلفة الكيلومتر أصبحت، بحسب آخر الدراسات، 5,046 ليرة. ويستطرد فياض: «هذا يمنعنا أن نطلب من المفتّشين القيام بأي مهام تكبّدهم فوق طاقتهم المعدومة أساساً. ومن المستغرب عدم التفات الحكومة إلى الأمر بالرغم من المطالبات المستمرة لرئيس التفتيش المركزي بضرورة تصحيح مرسوم بدل الكيلومتر والدراسات التي قدّمناها من أجل ذلك والتي لم تلقَ آذاناً صاغية».

 

 

 

إنجازات يعوزها التطوير

 

نضع للحظة الأوضاع الصعبة التي يجري العمل في ظلّها لنسأل عن أساليب العمل الإداري واستحداث طرق لتحقيق الخدمة العامة من دون إرهاق الموظفين. يجيب فياض: «مع الأسف، لا نرى أي حداثة في أساليب العمل الإداري، لا بل إن الكثير من الجهود التي بُذلت لتحديث وتطوير العمل وجعله في متناول الجميع ذهبت أدراج الرياح. فالأزمة الحالية التي أعادت الإدارة سنوات إلى الوراء تمنعها من القيام حتى بالأساسي والضروري من مهامها، لغياب المقومات المادية والبشرية».

 

مع ذلك، يبقى للتفتيش الإداري دور فاعل على أرض الواقع وفقاً للصلاحيات التي منحه إياها القانون، والمتعلقة بمراقبة سير العمل في الحقل الإداري، إن من ناحية كيفية تأدية الموظفين لأعمالهم، تقيّدهم بواجباتهم المسلكية والدوام، مدى انطباق أعمالهم على القوانين والأنظمة، طريقة تنفيذ الأعمال الإضافية المكلّفين بها ناهيك بالمراجعات والشكاوى والنتائج التي اقترنت بها. كما تجدر الإشارة إلى مشاركة المفتّشية العامة الإدارية في أعمال الرقابة على عمل منصّة IMPACT التابعة للتفتيش المركزي والتي تتيح الوصول إلى البيانات التي تمّ جمعها رقمياً. وبالتعاون مع مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، يجري تنفيذ مشروع تقييم الأداء المؤسسي في 17 مديرية عامة موزّعة على مختلف وزارات الدولة. كذلك، يشارك التفتيش الإداري، بالتعاون مع خبراء فرنسيين ومفتّشين من مفتّشيات أخرى، في التدقيق الداخلي لكل من مستشفى البوار الحكومي ومديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد.

 

أين المراقبة؟

 

حُدّد ملاك التفتيش الإداري في العام 1959 بـ30 مفتّشاً. وهذا العدد لم يُعدَّل حتى تاريخه بالرغم من ازدياد المهام نتيجة التضخم الحاصل في إدارات الدولة. في حين يضم الملاك حالياً 19 مفتّشاً فقط، أي ما لا يتعدّى ثلثي الملاك الملحوظ (مع إمكانية مغادرة مفتّشَين إضافيَّين اثنين قريباً). ويحاول رئيس التفتيش المركزي نقل عدد من رؤساء الدوائر في الإدارة العامة إلى التفتيش المركزي لسدّ النقص الحاصل في عديد المفتّشين من دون أن يوفَّق حتى الآن، حيث أن تعيين المفتّشين يخضع لموافقة مجلس الوزراء. «الإمكانيات البشرية مقبولة في الوقت الحالي لكن لا نأمل بالأفضل. أما الإمكانيات المادية والتقنية، فهي في الحضيض»، بحسب فياض.

 

والحال كذلك، كيف تتمّ مراقبة إنتاجية الإدارات العامة في ظلّ تعثر وصول الموظفين إليها وافتقارها إلى الكهرباء والمازوت والقرطاسية والحواسيب وعجزها عن القيام بأي دور؟ سؤال آخر يبدي فياض تأسّفاً حياله بسبب تعذّر المراقبة في خضم الظروف الراهنة، مفسّراً: «لكي نراقب الإنتاجية يجب أن يكون هناك إنتاجية أولاً. علينا أن نؤمّن للموظف قدرة الوصول إلى عمله وكافة الوسائل الضرورية للقيام بدوره الفاعل».

 

نعود إلى مسألة التعاطي مع الملفات. فالتدخّلات السياسية هي بدورها معضلة يواجهها التفتيش الإداري، وليس أقلّها ملف التوظيفات غير الشرعية التي حصلت قبيل انتخابات 2018. ماذا حلّ بالمخالفين وهل تمّت ملاحقتهم؟ يقول فياض إن تقرير رئيس التفتيش المركزي، بناء على تكليف اللجان النيابية، أحيل بعد إنجازه إلى ديوان المحاسبة، وهو الجهة المخوّلة قانوناً البتّ بموضوع التوظيف ودفع الرواتب. وبالرغم من أن الديوان أصدر بعض القرارات ذات الصلة، إلّا أن غالبية المعيّنين لم يجرؤ أحد على المسّ بهم، والأرجح أنهم ما زالوا يتقاضون رواتبهم مع كامل الحقوق والإضافات.

 

أما مخالفات هيئة إدارة السير، فقد «قمنا بالتحقيق فيها ومشكلتنا كانت في مواجهة رأس الهرم – أي وزير الداخلية – الذي، كما يعلم الجميع، رفض تنفيذ قرارات مجلس شورى الدولة والتفتيش المركزي. وبما أن لا سلطة لدينا لمحاسبة الوزراء، فجلّ ما فعلناه هو إبلاغ مقام مجلس الوزراء بالمخالفة»، بحسب فياض. ثم نأتي إلى ملف مؤسسة كهرباء لبنان، حيث هناك قانون يرعى علاقة المؤسسة بالتفتيش، كما تقوم المفتّشيات ضمن إمكانيات كل منها بالأعمال الموكلة إليها. لكن للتوضيح، ليس عمل المفتّشية الإدارية في مؤسسة كهرباء لبنان أساسياً إذ لدى الأخيرة جهاز رقابة خاص بها يتولى التحقيق في القضايا الإدارية وتحال تقاريره إلى التفتيش المركزي.

 

طموحات مقيَّدة

 

لتمكين التفتيش الإداري من إتمام واجبه على أكمل وجه، وجب بداية دعمه بالقدرات البشرية. أضف إلى ذلك ضرورة إعطاء المفتّشين حقوقهم القانونية في ما خص الراتب والتعويضات. ناهيك بتدريبهم وإعدادهم للقيام بواجباتهم وتعريفهم على أحدث الأساليب والوسائل المستعملة في عمل الأجهزة المشابهة. علماً أن التفتيش يحاول إطلاق دورات تدريبية بالتعاون مع مبادرات مشكورة محلية ودولية بعد أن توقّفت لفترات طويلة.

 

لكن، مع الأسف، الخطط الهادفة لتأمين استمرارية العمل في الإدارات غائبة، لا بل إن المعالجة عشوائية وآنية ولا ترقى في أي حال من الأحوال إلى مستوى الخطة. المنهج الوحيد المتّبع هو ترك الأمور تسير على غاربها دون معالجات. هذه الأمور، برأي فياض، «لا تتحقق إلّا ضمن إدارة عاملة في حين أن الإدارة اللبنانية مشلولة مادياً وبشرياً ووظيفياً منذ العام 2019. فمجرّد التفكير بالقيام بتفتيش يُعتبر جريمة، وهو ما لا يغفره لنا الضمير والحق». أما إضراب الإدارة العامة المستمر منذ أسابيع دون أي بوادر حلحلة، فخير دليل على التردّي الحاصل.

 

حتى مصادر التمويل، فهي غير متوفرة. إذ إن المصدر الوحيد لمستلزمات المفتّشية العامة الإدارية هو موازنة التفتيش المركزي، مع صعوبة في الحصول عليها نظراً لشروط تطبيق الموازنات الاثنتي عشرية، ما يفرض تقنيناً شديداً في استخدام الموجودات حفاظاً على استمرارية العمل ولو بالحدّ الأدنى. لكن رغم كون التفتيش الإداري غارقاً في عمق الأزمة، غير أن التفكير والتحضير للمستقبل لم يتوقّفا يوماً. ويشدّد فياض: «كان إطلاق منصّة IMPACT في مواجهة حاجات الإدارة والتصدّي للمخاطر الناجمة عن جائحة كورونا مثالاً على حسن تقدير التفتيش للحاجات وسبل معالجتها».

 

التعاون مع المؤسسات الدولية، خاصة الفرنسية منها، متواصل. فالتفتيش منكبّ حالياً على إعداد خطته الاستراتيجية للأعوام القادمة. وفي محاولة للتماهي مع المعايير العالمية، تمّ تنفيذ دورة تدريبية للمفتّشين من عدة مفتّشيات عامة حول المعايير الدولية للتدقيق، كما تجري استعدادات للقيام بدورة تدريبية جديدة تضم عدداً أكبر من المفتّشين للمهمة ذاتها. فلا غنى عن التدريب بوصفه أساسياً في نقل مهارات ومعارف الإدارات السابقة في مجالات العمل.

 

ختاماً، يتوجه فياض لكل من يشكّك بدور المفتّشية العامة الإدارية: «أؤكّد، بكل فخر، أن مهمتنا الحالية في الإدارات العامة تقتصر على مساعدة الناس على إنجاز معاملاتهم والتحقيق في شكاويهم دون أي ابتزاز، ولا يعنينا أي كبير أو صغير. لكن من الصعوبة بمكان مراقبة حضور الموظفين إلى الدوام في ظل الأوضاع المتدهورة، حيث أن ثمن صفيحة البنزين تخطى الحدّ الأدنى للأجور. لن أقبل أن أُرغم موظفاً أو مفتّشاً على الحضور إلى العمل تاركاً عائلته تجوع… وليحاسبني من يشاء».