IMLebanon

«التضخم الإداري والبيروقراطي» علّة لبنان الثالثة

 

أكتب اليوم، الجزء الثالث ضمن سلسلة العلل، التي بدأتها منذ أسبوعين، أشرح فيها فلسفة المشكلة وعمقها الجوهري في لبنان، إن المشكلة التي نعاني منها عميقة وليست كما يظن البعض، أنها إدراية ومالية ، فإنه اليوم، حتى لو جاءت حكومةً جديدةً، لن تعالج إلا بعض الأمور الجزئية حتى تعود مرة أخرى، في المقالتين السابقتين، كنت قد تكلمت عن العلّة الأولى وهي الديمقراطية التوافقية ثم العلّة الثانية وهي الطائفية السياسية، أما اليوم فإن العلّة الثالثة هي التضخم الإدراي والبيروقراطية القاتلة، هذ العلّة أسقطت دولٍ مثل الدولة العثمانية، وهي أحد أسباب الإنهيار المالي وتوغل النيوليبرالية في كل مؤسسات الدولة اللبنانية، ولكن كيف أدت هذه العلّة إلى إضمحلال الدولة ودورها في خدمة المجتمع؟

من الناحية الإقتصادية، إن أحد أهم شروط الصندوق النقد الدولي، أو من إحدى وصفاته السحرية، هي تخفيض موظفي القطاع العام، ولقد بلغ عدد موظفي القطاع إلى قرابة الـ 350 ألف ، تتوزع هذه الأعداد بين عسكريين ومدنيين، فإن عدد العسكريون يصل إلى 120 ألفاً، أما باقي العدد يتوزع بين الوزارات ومؤسسات الدولة. إن الولايات المتحدة الأميركية التي تبلغ مساحتها قرابة 9,629,091 كلم2 والتي يبلغ عدد سكانها حوالي الـ 350 مليون، كما أن عدد الموظفين بين الجيش والموظفين المدنيون يبلغ تقريبًا مليونان، نسبةً إلى عدد السكان، إن المعدل يساوي 0.5%، أما في لبنان، إن مساحته تبلغ الـ 10452 كلم 2، وعدد سكانه حسب تقرير الأمم المتحدة سنة 2018 يبلغ ال 6,831,971 نسمة، فإن عدد الموظفين نسبةً لعدد السكان تساوي 5.122%، طبعًا لن أدخل بالمقارنة بين إقتصادين البلدين، ولكن رغم الفوارق الضخمة، الإ أن الدولة اللبنانية قامت بتوظيفات فاقت قدارتها الإستيعابية، فإن الدولة من الناحية الإصطلاحية والأكاديمية، هي مؤسسة غير ربحية هدفها خدمة المواطن، ولكن يجب أن تكون أقله الصادرات تساوي الواردات في الموازنة، كي لا تدخل في لعبة عجز الموازنة وتراكماته لسنوات، وهذا ما حصل بالضبط، فإن التضخم الإداري سوف يؤدي إلى ضعف الدولة في تأدية الخدمات المطلوبة وهذا ما حصل تمامًا، وكما أن هذا التضخم سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادةٍ في الضرائب، الذي سوف يؤدي إلى إنكماشٍ في عملية النمو. كل تلك العوامل أدت عملياً إلى إنخفاض قيمة الليرة جراء الضغط عليها المتزايد دون وجود أي إنتاجٍ حقيقي.

هذا من الناحية الإقتصادية، أما من الناحية السياسية، إن التضخم الإداري يؤدي إلى سيطرة الأحزاب على كل مفاصل الدولة، مما يؤدي إلى تفشي وتوغل البيروقراطية القاتلة، كما أن هذا التضخم يلعب دورًا كبيرًا في قلب نتائج الإنتخابات النيابية والبلديات والمخاتير لصالح السلطة الحالية، بسبب تجنيد هؤلاء لصالحهم في المعارك الإنتخابية، وبكل بساطة، إن أحد أهم أنواع الفساد الذي يعاني منه جسد الدولة، هو مبدأ الوساطة وليس مبدأ الكفاءة العلمية والفكرية، القسم الأكبر من الموظفين، قد دخلوا عبر الوساطة، فبطبيعة الحال، فإن ولاء هؤلاء سوف يكون للحزب الذي ينتمي إليه، وهذه الجدلية تسوف تؤدي مع مرور الوقت، إلى التراجع الروحي في نظرية إيمان الإنسان وتعلقه بدولته، إن آفات مجتمعاتنا العربية، هي عدم إيماننا بالدولة، لعدة أسباب لن أدخل فيها. كما أن هذا التضخم، يؤدي إلى صراعاتٍ بيروقراطية وصراعٍ بين الأجهزة الأمنية، مما يؤدي إلى هزاتٍ أمنية هدفها إيصال رسائل. كما يؤدي هذا التضخم إلى عدم إنصياع المرؤوس للرئيس، وذلك لأن الإثنين ينتميان إلى تيارين سياسيين مختلفين عن بعضهما البعض، هذا الصراع لن ينحصر بين هذين الشخصين، إنما سوف يتوسع إلى دائرة الحكومة، قد تصل نتيجته إلى التصارع داخل الحكومة. والأهم من ذلك، هو عدد النواب الحالي وهو 128، هذا يُعتبر من أن أهم المشاكل البينوية في كيان الدولة، كلما زاد عدد النواب في بلدٍ يعاني من إنقساماتٍ إجتماعية ومذهبية، كلما إنتقلت تلك النزاعات من الشارع إلى داخل مجلس النواب والعكس صحيح، إن المجلس هو مقسم أصلاً بين الأحزاب المسيطرة على المشهد السياسي، فهذا النزاع يساهم في عرقلة عملية تشريع القوانين، وغيرها من مهامٍ لمجلس النواب.

هذا الإنتفاخ الإداري هو سبب رئيسي في إضمحلال الدولة على المستوى الإقتصادي والسياسي، وطبعًا في الإدارة والبيروقراطية القاتلة، وهذه العلّة هي من أحد أهم الأسباب في تراجع العملة الوطنية، إستناداً للأسباب التي ذكرتها أعلاه، فإن لبنان بلدٌ صغير، لا يتحمل هذه الأعداد من الموظفين في القطاع العام، لا بد من تطبيق نظرية صندوق االنقد الدولي، التي تطالب بتقليص العدد حتى يصل إلى 200 ألف تقريباً، وبرأيي نحتاج إلى تقليص أكثر، فهذا التقليص يؤدي إلى تحسّن في العملة الوطنية، وإنتهاء من عملة الإنكماش الحاصل، وغيرها من فوائد بينوية في جسد الدولة.