يوم امتنع مجلس النواب أو مُنع من، أو عجز عن انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال سليمان قبل انتهاء ولايته ضمن المهلة القانونية المحدَّدة في الدستور أدركت الدول الكبرى، ومنها الولايات المتحدة أو المكلّفون فيها متابعة الشأن اللبناني والشؤون “المحيطة”، أن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن يتاح للمشار إليه أعلاه إنجاز مهمته الأساسية. ولذلك اعتبروا الدعوات الكثيرة إلى عقد جلسات انتخابية لإنهاء الشغور الرئاسي نوعاً من “تقطيع” الوقت ومن أداء الواجب يقوم به رئيس مجلس النواب نبيه بري. لكن موقفها هذا لم يعنِ يوماً أن مدة الشغور ستطول إلى الحد الذي يراه اللبنانيون حالياً، وربما الى أبعد من الآن وبكثير. ذلك أن المسؤولين المعنيّين فيها يعرفون، ومنذ البداية، أن “التعوّد” على دولة بلا رأس عند البعض، أو “استعذاب” ذلك عند البعض الآخر، سوف يدفع الجميع لاحقاً مرغمين أو بإرادتهم وجراء تطورات ميدانية عنفية وسياسية سلبية، إلى البحث في أمور تمس جوهر النظام بل الصيغة في لبنان، ومعه نسب “الشراكة” في السلطة “لشعوبه” أي لطوائفه ومذاهبه وأحزابه وعشائره وقادته “المُلهمين”. هل يعني هذا الكلام أن الدول الكبرى المعنية بلبنان يئست من إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان وبدأت، جراء خوفها من انعكاساته السلبية المذكورة أعلاه، تشجيع اللبنانيين مباشرة ومداورة على أخذ الاستحقاق الرئاسي بأيديهم لوضع نهاية إيجابية له.
لم تصل الى اليأس، استناداً إلى معلومات مصادر موثوق بها. لكنها تخشى، أولاً، أن يصاب اللبنانيون بإحباط شديد جراء ذلك، وخصوصاً المسيحيين الذين يعرف قادتهم خطر الفراغ على دورهم وتالياً مصيرهم في الوطن، ورغم ذلك يعطون الأولوية لمصالحهم الشخصية وطموحاتهم السياسية بل الرئاسية. وتخشى، ثانياً، أن يكون المسلمون، أو أقسام منهم، غير مستعجلين لانتخاب رئيس جديد للبلاد، ولذلك فإنهم يطلبون من المسيحيين أن يحسموا أمر الشغور في ما بين قادتهم رغم علمهم باستحالة ذلك. وتخشى، ثالثاً، أن تتدهور الأوضاع الأمنية في البلاد رغم اصرار زعيم 8 آذار “حزب الله” على رفض الانجرار إلى حرب مذهبية في لبنان، وكذلك زعيم 14 آذار “تيار المستقبل” وإن لحسابات مختلفة وربما متناقضة. وقد عبَّر عن ذلك السيد حسن نصرالله أمين عام “حزب الله” بحديثه أخيراً عن ضرورة التحوّط قبل ذوبان ثلوج الشتاء الحالي الذي يجعل استئناف المعارك على الجانب السوري من الحدود الشرقية مع لبنان ممكناً وكذلك الجانب اللبناني منها. وقد يتوسّع القتال ليشمل جبهات أخرى. والشمال بدوره يبقى مهيّئاً لاستعادة أجواء العنف وعدم الاستقرار. ولا يرمي هذا الكلام إلى التقليل من دور الجيش والقوى الأمنية اللبنانية ومن الخطط الأمنية التي نُفِّذت في الشمال والبقاع، والتي قال عنها “أهلُ أهلها” كلاماً غير مطمئن كثيراً في مناسبة سياسية بل وطنية حزينة الأسبوع الماضي. فضلاً عن أن الجبهة التي تخاف فتحَها الدولُ الكبرى وغير الكبرى المعنية بلبنان وجواره والمنطقة عموماً هي التي لم تُفتح بعد. والمقصود هنا جبهة الجنوب التي لا يعرف أحد متى يقرّر قادة التنظيمات الأصولية السنّية المتطرفة، وفي مقدمها “جبهة النصرة”، فتحها من خلال عبور مقاتليها من الجانب السوري الحدودي مع اسرائيل (الجولان) إلى شبعا. ومن شأن ذلك اطلاق حرب لا بد أن يدخل فيها أكثر من طرف. ففي الجنوب تنوّع لبناني درزي – سنّي – شيعي ووجود فلسطيني سنّي، بعضه يجاري “النصرة” و”داعش” في التطرّف. إذ لا يمكن الاعتماد هنا على رفض “حزب الله” وحليفته إيران الإنجرار إلى حرب في لبنان للقول بثقة إنها لن تنشب. علماً أنه صادق في رفضه وقد برهن ذلك أكثر من مرة. وهذا أمر يعرفه أعداؤه، ليس في لبنان فقط بل في العالم أيضاً. فهو لا يستطيع عدم خوضها إن فرضت عليه وإلا خسر وجوده اللبناني ومعاقله الأساسية. وفي هذا المجال فإن الأسئلة التي تُطرح هنا هي: هل يمكن اعتبار فتح جبهة الجنوب قراراً اسرائيلياً بسبب علاقة ما بين اسرائيل و”النصرة”؟ وهل يعني ذلك أن الأولى قررت إضعاف “حزب الله” وإرباك ايران بدفعه الى خوض معركة قاسية في لبنان بل حرب أهلية قد تطول كثيراً مع استمراره في خوض معركة سوريا؟
وهل يعني أيضاً أن إسرائيل تفضّل على حدود لبنان معها “النصرة” أو “داعش” أو من يماثلهما، وليس “حزب الله” الموجود هناك حتى أعماق الجنوب والبقاع رغم وجود قوات حفظ السلام الدولية في الأولى؟ أم هل يعني إدخال أعدائها كلهم في حرب فينهوا بعضهم بعضاً من دون الحاجة إلى تدخلها المباشر حربياً؟