في حالة الموت فقط، يلجأ الخصوم إلى الحياء. الحياء صفة. واذا ما وجدت يكون لها مكانها، ويكون لها محياها. أما عندما تصبح حيلة، فتكون كذبا، وهي ايضا صفة. وبين الحياء والكذب، يتسلل الخبث، الذي هو مرض بعينه.
لم يكن محمد مهدي الجواهري قابضا لكيس من الدنانير عندما جاء الى اربعين عبد الحميد كرامي، وصاح بوجه الطغاة ذوي الاعمار القصار. ولم يكن عبد الحميد والياً بيده مفاتيح المدن والنواحي. وعندما استشهد الرشيد، لم يكن الحزن عليه من بيوت تصدّق عليها في لحظة تباهٍ زائلة. وعندما رحل الأفندي عمر، لم يبكه الاوادم خشية انقطاع النسل.
لكن الكبار لهم ايامهم الجميلة، ولهم الذكريات التي لا تفنيها نار ولا دنانير. أما الصغار، فلهم ديدنهم الذي يشي بكل الحقارة والوضاعة والدونية المضمرة التي تسكنهم اينما كانوا!
بالامس، نعى كثيرون الراحل الكبير. لكنّ بيانا واحدا، كتبه لئيم ذو ناب زرقاء، من صنف الذين يخشون خصومهم حتى بعد الموت، او الذين يرمون اخر التراب على الجثمان للتأكد من صحة الخبر.
هو بيان سعد الحريري، الذي قال «إنه خسر ركنًا من أركان مدينة طرابلس»، من دون ان يغفل الاشارة الى «المغفور له الرئيس رشيد كرامي». لم يبتعد الحريري لحظة عن حقده، فمنع عن الرجل صفته الوطنية، ولم ير فيه الا ركنا من اركان مدينة هي اعلى من كل قامات صغار الولد الارعن.
والحريري، الوفي لحلفائه من القتلة، لم يجرؤ على وصف الرشيد بالشهيد. وكأن الناس بلا ذاكرة، او كأن الدماء جفت!
لنقل صراحة، الحريري كان صادقا مع نفسه، وكان يعبر عن حقيقة ما يفكر فيه، او هكذا فعل من صاغ هذا البيان ــ المذلة.
ما كان الحريري، ليفكر بغير هذه الطريقة. فهو سليل مدرسة، كان شرط وصولها الى كرسي الحكم، دوس كرامات الناس، والكرام منهم. الم يكن الافندي الراحل اول ضحايا الورشة الحريرية؟
لكن الكبار كبار، وآل كرامي، هم من هؤلاء الكبار، الذين ترتفع قاماتهم الى اعلى من شواهق الغزاة. اما الصغار، فمهما بذلوا للارتفاع الى الأعلى، فلن يصلوا طرف العين، وبالتأكيد لن يرتفعوا فوق حاجبها.