IMLebanon

مغامرة الجواب

السؤال واجب. الجواب مغامرة؛ هذا إذا كان جدياً. يخضع الجواب لمعايير الخطأ والصواب. على المرء تحمل مخاطر الخطأ. لا يتقدم العلم، والمجتمع عامة، دون مخاطر الخطأ في الاستنتاجات التي يتكوّن منها العلم؛ العلم الطبيعي لا الإلهي (العلم الإلهي ليس في أجوبته مخاطرات. هو علم استنباطي ينطلق من مسلمات الإيمان). العلم الطبيعي ليس فيه مسلمات؛ هناك قوانين تكتشف عن طريق الحدس وتختبر بالتجربة، ويؤخذ منها ما أكدته التجربة. العلم الطبيعي معرفة إنسانية، بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والطبيعة. يتراكم هذا العلم باستبعاد الخطأ وتراكم ما هو صحيح.

كما بين السؤال والسؤال جواب، هناك أيضاً بين الجواب والجواب سؤال. واحدهما يقود إلى الآخر في سلسلة تتشكل على أساسها المعرفة. الجواب فيه قرار يمكن أن يخطئ أو يصيب. لا يكفر من يخطئ في العلم الطبيعي. لكن في الجواب قرارا، على الباحث أن يتحمل نتائجه؛ لكنه يتخلى عن الاستنتاجات الخاطئة في سبيل الصواب. لا أجوبة مقررة سلفاً، أو مستنبطة من مبادئ إيمانية، المبادئ العلمية يمكن دحضها في مراحل معينة تتراكم فيها المعرفة وتنسف المبادئ القديمة؛ أو تحتفظ بالقديمة مع الارتفاع إلى مستويات تتناسب مع التجارب الجديدة. انتقل العلم الفيزيائي النيوتوني إلى مرحلة نسبية أينشتاين والكوانتا. وهذان مبادئهما مختلفة عن النيوتونية.

في الجواب تعبير عن قرار، هو استعداد لتحمل المسؤولية، مسؤولية الخطأ أو الصواب. لا معنى للسؤال إذا لم يكن هناك سعي للجواب. الجواب لا يكتشف الحقيقة لأنها لا متناهية، يكتشف الحقائق الجزئية التي تبني نفسها لبنة فوق لبنة في سعي للوصول إلى الحقيقة المطلقة، في الصيرورة إلى المطلق اللانهائي.

من دون السعي إلى الجواب، يمكن أن تنتهي الأسئلة المتواردة إلى سلسلة من مواقف النفاق والعزوف عن ممارسة الجواب في الوقت نفسه وإذا كانت الأجوبة مقررة سلفاً. مكررة دائماً، كما في أنظمة الاستبداد. فهي نوع من الديماغوجيا. الأجوبة الديماغوجية ليس فيها مخاطرة. فيها خوف من المخاطرة، انعدام الثقة بالنفس. مصير أصحابها الهزيمة المؤكدة.

تُدخلنا الأسئلة الكبرى في المجهول، غير المعلوم. الأجوبة الجدية تكتشف المجهول. يخاف الاستبداد من المجهول. يبذل الجهد من أجل تلافيه. يُبقي الأسئلة والأجوبة في إطار محدد سلفاً. من يخرج على المألوف، المفروض بالقيد والقمع، يعرِّض نفسه للأذى. هكذا يجري تدمير النخبة الثقافية. دمرت أنظمة الاستبداد، السياسية والدينية، النخب الثقافية حين منعتها من ولوج المجهول. يُراد أن يكون كل شيء معلوماً. والمعلوم لديها تافه مكرر مجتر.

شرط النخبة أن تكون رهبنة معرفية: تنشر المعرفة في سبيل المعرفة. «الفن للفن» نظرية صحيحة يحتقرها الوعي السائد، الوعي الذي تفرضه أنظمة الاستبداد. يتواطأ على تشكيل الوعي السائد خوف النخب الثقافية وقمع الأنظمة الاستبدادية. ترفع أنظمة الاستبداد الوعي السائد إلى مستوى المقدس الذي يستحيل مناقشته أو المس به؛ تخرج العلم من مجال السؤال، تلغي الجواب. تتضاءل المعرفة.

في مجتمع الديموقراطية تتوالى الأسئلة. الناس يسألون والساسة يجيبون (طبعاً يستعينون بآراء واكتشافات النخب العلمية). كل شيء علني. السرية مشبوهة. يشارك الجميع في المعرفة، كل حسب مقدرته الذهنية. خوف الطغاة من شعوبهم يدفعهم إلى السرية. لا يستطيعون مواجهة جمهورهم إلا في احتفاليات كبرى؛ لا مجال فيها للسؤال والجواب. الأسئلة معدة سلفاً، والأجوبة معروفة مكررة.

لا مناص من دور معرفي للنخبة الثقافية. لا بد من مراكز للبحث والتفكير. ليس صدفة أن بلادنا العربية تخلو من مراكز البحث الحر، حتى في العلوم التاريخية أو الطبيعية. لدينا مراكز بحوث، لكنها تابعة للأنظمة التي تراقبها وتضبط مسيرتها؛ وتلغيها إذا جاءت بغير ما هو متوقع ومألوف.

في السياسة أسئلة، الأسئلة تحتم البحث عن أجوبة؛ الجدية تحتم طرح الجديد غير المألوف، الولوج في المجهول. ضبط الأسئلة والأجوبة يعني إلغاء السياسة. في الأخلاق مبادئ لا جدال حولها، وإن جرى التلاعب حولها تباعاً. التلاعب بالأسئلة والأجوبة خروج على مبادئ الأخلاق. أنظمة الاستبداد تخلو من السياسة والأخلاق. كل واقعة أو حدث يصير موضع تلاعب وتزوير وكذب.

مع تدمير النخب الثقافية صار وعينا أشلاء. الأجوبة السابقة، مثل الوحدة والاشتراكية وقضية فلسطين والمقاومة والنضال، صارت «لغة خشبية» في نظر الكثيرين، بل الغالبية. ثورة 2011 ليس لديها برنامج، وكأن الثورة تحتاج إلى برنامج. فضلوا لقب «الربيع العربي» لإبعاد شبح الثورة. لم ينتبهوا إلى أن تعبير «الربيع…» هو أيضاً لغة خشبية منذ ربيع براغ وقبله. تكفيهم الأوصاف لنفي المضمون. لم يعد التاريخ ذا منعطفات وتعرجات ومفاجآت. صار المألوف سطحاً واحداً عندنا كما في العالم. نظام لا تشوبه أزمات بنظرهم ورغم الوقائع؛ لا النظام العالمي ولا نظام بلادنا. رأسمالية هي الطبيعة البشرية؛ وما عليك إلا أن تكون لصاً أو متسولاً أو منافقاً كي تنجو بنفسك. عالم ذو بُعد واحد هو المال. التبرير طبعاً هو غريزة البقاء.

تدمير النخب الثقافية، تدمير الوعي، هو في الآن ذاته تدمير الضمير الفردي. الضمير الذي صار غير آبه لشيء إلا للخلاص الفردي. يصعب الخلاص فردياً؛ إذن. خلاص الجماعة. تستولي الجماعة (في لبنان: الطائفة) على الفرد. الجماعة تراث وأساطير وخرافات وأوهام الأصل. بمقدار ما تستولي الطائفة على الفرد، يستوي الطاغية على المجتمع، ويصير الأفراد نتائج صناعة إيديولوجية.

نخب مفككة مشلّعة مدمرة عاجزة تافهة؛ تعتبر أمجاد الماضي تعويضاً عن ذل الحاضر. العجز عن السؤال هو في الأصل عجز عن الجواب. من لا يقدر أن يتبنى رأياً، ضميراً خاصاً به بغض النظر عن النتائج، لا يستطيع أن يسأل. من يعفي نفسه من مسؤولية الجواب، أعلن مسبقاً عزوفه أو عجزه عن السؤال.