IMLebanon

مغامرة خطاب الشيعية السياسية العربية

الحديث عن خطاب للشيعية السياسية على مستوى عربي، حديث جديد، والمصطلح هذا ما كان وارداً في السنين الأطول من عمر الكيانية العربية. لقد ساد التعريف بالشيعة كمواطنين في بلادهم، وما خلا لبنان، صاحب البنية «المختلفة» عن سائر البنيات العربية، ما كان ممكناً الكلام على كتلة مذهبية شيعية ذات توجه سياسي محدد بكلمات، وبمطالب وبحركة سياسية واضحة. بناءً عليه، يمكن قراءة هذه الشيعية التي طفرت مذهبيتها بعد حقبات من الكمون، قراءة استرجاعية تاريخية، ضمن الأطر الكيانية التي تبلورت فيها، ومن ضمن السياقات المجتمعية والأهلية الخاصة بكل كيانية عربية. إذاً القول بعمومية شيعية سياسية، أي القول بطموح سياسي يتجاوز المدار الوطني المحلي هو الجديد.

وهذا الأخير لا يلغي الوقائع المجتمعية المجحفة أو المنصفة، التي عرفتها الكتل الشيعية، مثلما لا ينفي أنماطاً من حركاتها الاحتجاجية، لكن كل ذلك ظلَّ مرتبطاً بالتعريف الوطني، أي الداخلي، لكل فئة شيعية عربية على حدة. زد على ذلك، أن مرجعية «الوطنية» الشيعية كانت أوطانها، لذلك كانت لوائح مطالبها مرفوعة إلى المعنيين في هذه الأوطان، وهذا كان يعني المطالبة بمساواة في الدولة، وبالاستفادة العادلة من توزيع مغانمها، ولم يكن في الأمر خروج على الدولة بل كان الأمر طلباً للانضمام إلى سياقها، حيث كانت بعض الدلائل والمؤشرات والوقائع تفيد باستبعاد هذه الكتلة المذهبية عن مجرى انتظام السياق، فكانت تفسر استبعادها الجزئي أو الواسع، تفسيراً مذهبياً، وهذا الأمر في حد ذاته، أضاف عامل احتقان فئوي إلى عوامل الاحتقان المجتمعية والأهلية، التي كانت تعتمل في البنى العربية المختلفة.

من العوامل التي دفعت إلى بلورة شيعية سياسية عربية في السنوات الأخيرة، يبرز عاملان مهمان، أحدهما بنيوي عربي داخلي، والثاني إقليمي خارجي، ومن تضافر هذين العاملين المهمين، مع سواهما من العوامل، طفا على السطح مظهر انشقاق شيعي سياسي، داخل البنى الأهلية المحلية، وامتد ليعقد «تفاهماته الوجدانية» وقراءته عن «المظلومية» التاريخية، مع من يشاركه القراءة ذاتها والوجدان ذاته.

ارتبط المأزق البنيوي العربي بفشل المشروع القومي العام، فشله السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فكانت الحصيلة أن كل النزعات والمنازعات التي سُجنت قي قمقم القولبة القسرية والفهرية، أفلتت من قيودها حالما بدأت جدران القمقم بالتشقق وبالتصدع، وانطلقت «الهويات» الموروثة، مسلحة بثقافتها الخاصة وبتواريخها الاحترابية، لتعمل كلام الهدم والبعثرة في كل المنظومة الانتظامية العربية، التي حاولت انسجاماً واندماجاً على طريقتها، فما أدركت لا هذا ولا ذاك.

بالتزامن مع بروز أزمة العامل العربي، الذي كان واحداً من عوامل بروز اللغة الشيعية السياسية الخاصة، برز العامل الإيراني بعد نجاح الثورة الإسلامية ضد نظام الشاه، وقد ساعد الخطاب الاعتراضي الذي أعلنته الثورة على مدّ الجسور ليس مع الشيعية السياسية المحلية، بل هو دغدغ الآمال القومية لشرائح عربية واسعة، بعد أن كانت هذه قد أصيبت بالخيبة، بخاصة في موضوع القضية الفلسطينية. لقد تصرف النظام الإيراني الجديد تصرفاً شعارياً وأتقن مقوماته، بخاصة في المجال القومي، ولم يكن قليل الحجة في المجال الإسلامي، لذلك استطاع في الحقبة الأولى من عمره أن يستقطب حلفاء له حتى أثناء قتاله ضد العراق، البلد العربي الذي كان بالنسبة للقوميين العرب، القاعدة الخلفية المتينة لدول الطوق التي تحاذي فلسطين.

مع الممارسة الإعلامية والإعلانية والشعارية، سعى النظام الإيراني إلى بناء ركائز داخلية في الدول الواقعة في جواره، وفي الدول البعيدة، مادة الركائز كانت من أبناء الفئة الواحدة، أي من الكتلة الشيعية التي عمل النظام الإيراني على نقل مرجعيتها الوطنية إليه، فبات بالنسبة إليها «النموذج المركز»، الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، والدفاع عن سياساته، وذلك في محاكاة للنموذج السوفياتي السابق الذي كانت له أحزابه الشيوعية المختلفة، وفي تشبه مع الولايات المتحدة الأميركية، التي دعمت وساندت وبنت أنظمة قوية تابعة لها، بخاصة في حقبة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. لقد أفلحت السياسة الإيرانية في تقديم مكاسبها السياسية كمكاسب للشيعية السياسية المحلية، ولمجموع «الشيعيات» السياسية العربية وغير العربية، وهي، أي السياسة، نجحت أيضاً في جعل «تطورها» التسليحي، التكتيكي والاستراتيجي، كنجاح وكضمانة لكل الشيعيات التي تقول قولها، وتتولى مشاركتها في أفعالها، وفي امتداد ذلك، بات النصر الإيراني العام، نصراً خاصاً لكل شيعية سياسية بعينها.

عند هذه النقطة، نقطة التماهي مع القراءات الإيرانية لموقع إيران ولنفوذها والأنجع من سياساتها، بدأ الافتراق مع المحليات الوطنية التي ترى ذواتها مهددة بطفرة فئوياتها، وبدأ التباعد بين الوطنيات العربية، المفترقة داخلياً، وبين العامل الإيراني الذي صار تأكيد نجاحه في ميادين سياساته، نفياً لسياسات عربية وإفشالاً لها، وبمقدار ما بدت العصبية الإيرانية، المشحونة بمذهبيتها، عصية ومتماسكة، بدت العصبيات العربية الأخرى، الممتلئة بكل موروثاتها في موقع الدفاع عن تماسكها. مفارقة تاريخية تواجه الناظر إلى الوقائع: تأكيد الوجود الطافر في مكان، هو نفي للوجود الذي يرفض أن يكون ضامراً في مكان آخر، أما المواجهة فتدور فوق رقعة جغرافية واسعة، وأما الأسلحة ففيها من سلاح التاريخ الغابر الكثير.

إلى أين من هنا؟ إلى القول إن معارك المذهبية الفئوية خاسرة في ديارها، وخاسرة خارج الديار، وكل خسارة تدفع من حساب الأوطان… ومما لم يعد مستغرباً أن الفئويات تقبل بحماسة على دفع فواتير الخسائر والهزائم من حساباتها، وعلى حساب كل الأوطان.