يقول علماء النفس إن كل الدراسات المتعلقة بسلوك المدمنين على ألعاب القمار تقود الى صفة مشتركة بينهم جميعاً، وهي: التطيّر!
والتطيّر، من دون الغوص في التفسيرات اللغوية، يعني عموماً، التمني المصحوب بأحلام اليقظة. والمدمن عليه، مثل المدمن على المخدرات، يعرف مضاره، لكنه يرى فيه أمله الوحيد لمواجهة مشكلته.
اليوم، تعاني قوى سياسية كثيرة في لبنان، من قياداته إلى كوادرها إلى مفاتيحها الانتخابية إلى إعلامييها إلى مستشاريها، عارض التطيّر. لكنها، كلها، وصلت الى هذا المرض، نتيجة حالتَي الإنكار والمكابرة، علماً بأن من يعمل في السياسة يرفض فكرة التسليم المبكر، لأن الالتزام بالوقائع قد يفسر استسلاماً.
في حال قوى 14 آذار، مع لفيف من القوى التي إما وجدت نفسها في تيار 8 آذار، أو تعتبر نفسها مستقلة، فإن واقع التطيّر هو المسيطر. لا العقل ولا الحسابات المنطقية، ولا النظرة الواقعية من يتحكم بخطواتها.
منذ انتخاب ميشال سليمان تحت ضغط 7 أيار 2008، والكل يعلم أن الجمهورية لن تستوي، توازناً تمثيلياً على الأقل، من دون وصول ميشال عون الى بعبدا، وخصوصاً أن قاعدة اختيار التمثيل السياسي لبقية المواقع تستند الى قوة التمثيل عند المتنفذين في الطوائف والمتقاسمين للمال العام. وما سنوات ميشال سليمان إلا وقت ضائع يصلح للمتقاعدين، ومنهم سليمان نفسه. ولما فتحت أبواب النار في المنطقة العربية، صار لزاماً النظر الى الاستحقاق اللبناني بطريقة مختلفة. لكن، عندنا من يصرّ على اعتبار آليات العمل السابقة سارية المفعول الى يوم الدين.
هكذا مرت سنوات خمس قاسية قبل إدراك الجميع أن الفراغ في بعبدا قائم فعلياً، حتى مع سليمان. ولم تكن إطاحة سعد الحريري سوى إشارة عملية لمن كان يعتقد بأن الأمور لم تتغير. ومن يومها، صار الحل بين منزلتين، إما انتظار تطورات المنطقة، أو المسارعة الى خطوات تخفف عن لبنان بعض الآثار السلبية. لكن المكابرة والإنكار خلال السنوات الثلاث الماضية، جعلا لبنان ليس في غرفة طوارئ ينتظر من يحوّله الى القسم المختص، بل صار مثل مريض جالس في بيته ينتظر سيارة الإسعاف لتقلّه الى المستشفى. وهو عانى وتعب أكثر من الانتظار من دون علاج. حتى لم تعد المسكنات تنفع. فصار لزاماً، إما تركه يموت، أو نقله الى العلاج. وبهذا المعنى، فإن التسوية الرئاسية اليوم لن تنجح في أكثر من نقل لبنان الى مركز علاج، من دون اقتناع حتمي بأنه سيكون بين اختصاصيين.
لكن، بين أهل المريض من يصرّ على منح نفسه صفة علمية تتيح له التشخيص. وهؤلاء لم يرسبوا في هذا الامتحان فحسب، بل لم ينجحوا مرة في أي امتحان. ظلّوا على الدوام يقفون في الصف بقوة القهر الخارجية، وبقوة الفقر الذي يجعل بعض الناس يركضون خلفهم. وحتى عندما يتقرر نقل المريض الى مركز العلاج، يصرّ هؤلاء على رسم تقديرات وتوقعات بشأن آلية العلاج. والأنكى، أنهم يعتقدون بأنه ميت لا محالة، وهذا ما يوجب عليهم خوض معركة الوراثة الآن. وهذا هو جوهر كل ما يجري حتى الآن.
ولأن الافتراض قائم على ذلك، يقيم كل طرف حساباته. لكن الفرق هو بين حسابات علمية واقعية، وبين حسابات قائمة على مبدأ التطيّر. يعني أن لاعب القمار يعرف ما في جيبه، لكنه يتمنى ويحلم بما يريد أن يكون في جيبه.
لنأخذ مثلاً، سمير جعجع. فهو يفترض مثلاً، ومعه خصوم عون، أنه سيرث التيار الوطني الحر. أما لماذا؟ فهذا سؤال الغيب. سيرث من؟ هل هو يعتقد جدياً، بأن من سيترك التيار الوطني احتجاجاً على أمر ما، سيركض باتجاه «القوات اللبنانية»؟ أم أنه يعتقد بأن حزب الله مثلاً، ومعه هذه المرة نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية والقومي والبعثي و و و و، سيخوضون معركة توليه رئاسة الجمهورية بعد عون؟ أم أنه يعتقد بأن الجماهير من الجنوب الى الشمال، مروراً بجبل لبنان والبقاع، ستنام وتفيق على صورة الحكيم القدّيس؟ أم ربما سيقنع المسيحيين في سوريا وفلسطين والعراق بأن يبايعوه، لأن علاقته بجبهة النصرة، أو خبرته ــ حتى لا يقال أكثر ــ تتيح له إعادتهم الى منازلهم وحفظ وجودهم وحقوقهم…
ولك يا عمي، بالكاد، يقدر يصلّح ورا ستريدا ببشري قبل بقية المناطق!
هناك أيضاً، سعد الحريري، الذي يقول له خصومه إنه سيخسر تياراً كبيراً في السعودية، وسيخسر تياراً شعبياً كبيراً في لبنان، وإنه وإنه وإنه…. هل فكر أصحاب هذا المنطق قليلاً، في ما يمكن السعوديةَ أن تساعده اليوم؟ هل بينكم من يصدق أن آل سعود، الذين يقفلون شركات تعود لأمراء ومشايخ كبار، يحلمون بإنقاذ مؤسسات الحريري؟
ولك يا عمي، حفي هولاند حتى قبض المهندسون الفرنسيون معاشاتهم!
ثم إلى أين سيذهب جمهور الحريري؟ الى السلفية التي لم تعرف النمو في لبنان، برغم كل ما يقال؟ أم خلف أشرف ريفي، الذي لم يطق جولة بسيطة لعباس ابراهيم في التبانة؟ أم خلف فؤاد السنيورة الذي يتوهم بأن أهل صيدا سيركضون خلفه، وأنه سيتحالف مع حركة أمل في حارة صيدا ومع القوات اللبنانية في شرقها، والجماعة الإسلامية وأحمد الأسير، وسيكون الملك المتوّج؟
ولك يا عمي، كان السنيورة يقبل يدفع معاشات مرافقينو وأجرة صيانة موكبو أول شي!
ثم يجري الحديث عن وليد جنبلاط. وللعلم، فهو كلام مبالغ فيه. فالرجل، لا يحب عون، أصلاً هو لا يحب مسيحياً غير الذين يسامرونه الليل. والرجل، عندما جاءته السفيرة الأميركية تسأله موقفه قال لها: «أنا بالجبل، ما بقدر أوقف بوجّ أكثرية مسيحية، وأكيد ما رح كون قادر أوقف بوجّ حزب الله، فإذا قرر الحريري السير بعون، عليّ أن أبتكر الحل المبدع». وهو ما يفعله الآن، وتأخير قراره الى الأسبوع المقبل سببه انتظار مآل المشاورات الجارية بين حزب الله والرئيس نبيه بري، حتى يقرر وجهة سيره في الواحد والثلاثين من الشهر الجاري…
ولك يا عمي، بالكاد، جنبلاط بعد يقدر يقنع تيمور، إنو يتصرف كبيك!
لكن، تبقى هناك مشكلة المستشارين، المنتشرين كالفطر من حول السياسيين والقيادات الكبيرة. تراهم يفركون جباههم، ثم يقفون ويطلبون صمت الزوجة والأولاد، قبل أن يهرولوا باتجاه أولياء نعمهم صارخين: وجدتها… لكنه لا يقول واقعة جديدة، أما بقية الكلام فتطيّر بتطيّر!
ولهؤلاء المستشارين، ومن يوظفهم، نعيد سرد الرواية المعبرة:
ذات عصر ربيعي لطيف، كان راعٍ يسند ظهره الى شجرة بلوط، يلف سيجارته، ويدندن الدلعونا وهو يفكر في جارته. بينما قطيعه يرعى من حوله، وبين النعاج كلبه الوفي يرفع رأسه من على تل صغير، كمن يقوم بتعدادها. وفجأة، يخرق الهدوء صوت سيارة تقف على عجل، وتثير الغبار في المكان. لينزل منها شاب ثلاثيني، خالعاً جاكيته، ويقترب من الراعي وهو يفك أزار قميصه ويحل عقدة ربطة عنقه. يقف رافعاً جسده، يخفض نظارته السوداء قليلاً، ثم يقترب من الراعي قائلاً له: هل تعرف أنني أقدر على أن أقول لك كم نعجة في قطيعك من دون أن تقول أنت شيئاً؟
يبتسم الراعي قليلاً، ثم يقول له: كم هو العدد؟ فيسارع الشاب الى القول: إذا ثبتت صحة كلامي تعطيني نعجة من عندك. يهز الراعي رأسه موافقاً. فيركض الشاب العصري الى سيارته الرباعية الدفع، ليخرج منها حاسوبه المحول، يضرب الأزرار وهو يغني بالأجنبية، ثم يصرخ: لديك 217 رأساً… صحيح؟
لا تصدر عن الراعي ردة فعل. لكنه يقف على قدميه، بينما يأخذ الشاب رأساً من القطيع، ويدخله في سيارته مقرراً الرحيل. فيقترب منه الراعي ويقول له: هل تعرف أنني أعرف مهنتك، من دون أن تقول أنت شيئاً؟ ابتسم الشاب هازئاً: وكيف؟ رد الراعي: إن أصبت تعيد إليّ ما أخذته؟ ثم أخذ نفَساً وقال له: أنت تعمل مستشاراً؟
صدم الشاب، قبل أن يتابع الراعي كلامه: تعرف كيف عرفتك؟ لأنك أتيت من دون أن أرسل في طلبك، وقمت بعمل لا يفيدني بشيء، ثم إن ما أخذته هو الكلب وليس نعجة، فأعده لي وارحل.
هذا هو المستشار، فبئس من شغّله عنده.
تبقى نصيحة لمن لا يريد الفوضى في لبنان، إذ ليس أمامه سوى الدعاء بانتخاب ميشال عون رئيساً بعد أسبوع من الآن!