في الأمتار القليلة التي تفصل بين ساحة عبد الحميد كرامي وكرم القلة، تتدفق الذكريات بغزارة.. إنه يوم الجمعة. رشيد «أفندي» يكون مشغولاً، كالعادة، باستقبال الناس..
في المرة الأولى التي توجهت فيها إلى تلك الباحة التي تجمع بين القصر الكرامي وصالون الاستقبالات، لتغطية اجتماع «هيئة التنسيق الشمالية» برئاسة الرئيس رشيد كرامي في العام ١٩٨٢، كنت مأخوذاً بسهولة الوصول إلى تلك الزعامة، بالرغم من موقف مبدئي، نتيجة الميول اليسارية، يرفض «الإقطاع السياسي» و»الزعامات التقليدية».
تلك المحطة الأولى صارت إدماناً. حتى أن انتقال «الأفندي» صيفاً إلى بقاع صفرين في الضنية، لم يعطّل ملاحقته إلى مصيفه. صحيح أن النزعة الصحافية كانت المحرّض على تلك المتابعة، لكنها لم تكن مفروضة أو ثقيلة..
كانت المرة الأخيرة في بقاعصفرين قبل يوم واحد فقط من الاغتيال المدوي في سماء لبنان وسقوط رشيد أفندي شهيداً.
في تشييع الرشيد، هتف الكراميون بحياة عمر.. لم تكن تلك «البيعة» مستفزّة بالرغم من القناعات الشخصية التي ترفض التوريث السياسي. فاغتيال رشيد كرامي عطّل كل تلك الأفكار، وصار الهاجس إحباط أهداف الاغتيال.
حمل اللقاء الاول مع «المحامي عمر كرامي» نوعاً من الكيمياء الشخصية التي تراكمت وتفاعلت.. فطال مفعولها حتى الرمق الأخير.
لا يعرف عمر كرامي كيف يساير ليكسب ودّ الناس.. طباعه تدفعه للتصرف كما هو من دون قفازات.. وإلا فإنه يلجأ إلى قاعدة «والكاظمين الغيظ…».
كثيرة هي التوصيفات التي أعطيت للرجل في حياته، لكنها كلها كانت تتقاطع عند عفوية انفعالاته وعدم قدرته على تمويه موقفه وعلى صراحته وجرأته.. وحدّته في الرأي والانفعال والصراحة…
إرث الزعامة ترسم حدوداً للعلاقة بينه وبين شركاء مجلسه.. بعضهم من ورثة مجلس الرشيد.. أو ممن ورثوا مجلس عبد الحميد عن آبائهم.. يعتقدون أن الانتماء الى الزعامة الكرامية قضية لا تحتاج الى نقاش في أسبابها لأن هذا الانتماء فطري وموروث جيني! حتى عندما تغيّرت مفاهيم العمل السياسي في لبنان وأصبح المال عصب الزعامة والسياسة، لم يواكب عمر كرامي تلك الموجة. ظل على قناعة أن طيبة الناس وفطريتهم تستطيع التغلب على ذلك المسار الدخيل. «بكرا الناس بيكتشفوا الحقيقة..»، كان يردد دائماً.. لكن «بكرا» طال انتظاره..
لم يكن يدرك أن حاجات الناس تغيرت وأن الطبائع تبدلت، ظل مؤمناً بالمقولة الشهيرة «يا آخد القرد على ماله، بكرا بيروح المال وبيبقى القرد على حاله»…
لكل «موقعة» عند الأفندي ظروفها وجنودها.. لكن «رجال الكرامة» يصلحون لكل المواقع والمعارك. هو يفتح «باب الجهاد والاجتهاد» للراغبين من الموثوقين من قبله، وعليهم أن يخوضوا المعارك ويؤمّنوا مقومات الفوز فيها لوحدهم ثم يعودوا اليه لإبلاغه بالنتيجة، فإذا انتصروا فيها ازدادت مهماتهم واقتربوا من الدائرة الضيقة حوله، وإذا فشلوا يتم تكليفهم بمهمات «على قياسهم»..
أكثر ما كان يعتصر قلب عمر كرامي هو «الخيانة».. كان إطلاق تلك الصفة على أحد تعني أنه صار محظوراً عليه الاقتراب من المنزل او المكتب.. وحتى من الهاتف الشخصي.
ومع أن الأفندي كان يفسح في المجال أمام المحيطين للعب أدوار بهوامش واسعة، إلا أنه كان ممنوعاً النقاش في الخطوط الحمر التي يرسمها، فهي من المسلمات السياسية التي لا تحتمل التنازل او الاجتهاد والتأويل.
ومفهوم «الخيانة» عند الافندي كان سياسياً.. وشخصياً أيضاً. ولذلك كان ينظر بألم الى اولئك المتسلقين على جدران كرم القلة أو حفيت أقدامهم في الطريق إليها سعياً الى موقع متقدم في السياسة او النقابة او المجتمع، ثم يديرون ظهرهم له عند أول مفترق.. ذلك حصل مع وزراء ونواب ومرشحين ورؤساء واعضاء مجالس بلدية ومخاتير ورؤساء نقابات مهن حرة او عمالية… استفادوا من زخم الحالة الكرامية عندما كانــت فــي عزّ قوتــها وسيطرتها على مواقع التأثير فــي مجتمع طرابلس، والتحقوا بمواقع سيـاسية أخرى أمسكت بالسلطة ثم عادوا وتخــلوا عنها عندما ضعفت ليلتحــقوا بكل موقــع يحقق مصالحهم.
الكلمة السحرية عند عمر كرامي: «الوفاء».. وهي الكلمة نفسها التي دفع ثمناً كبيراً لالتزامه بمضمونها السياسي. ذلك أصاب منه إحباطا متكررا شجعه على الانكفاء الطوعي، فالهاجس الاهم عنده هو استمرار المسيرة الكرامية، أفسح المجال لنجله فيصل تاركاً له فرصة إثبات نفسه واكتساب الخبرات.. نجح فيصل في امتحان والده، فسلمه الامانة.. ثم أسلم الروح مطمئناً.
ظُلم عمر كرامي مراراً، وربما لذلك كان وداعه كبيراً. التشييع جاء نسخة عن تشييع شقيقه الشهيد الرئيس رشيد كرامي..
ربما يكون عمر كرامي شهيداً سياسيا. شهيد نعاه «الأوفياء» الذين أحبهم في حياته.