IMLebanon

«الأفندي» يودّع طرابلس: في انتظارنا سنوات صعبة

ودع أبناء مدينة طرابلس أمس رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي. سلّم «الأفندي» إرثاً سياسياً حمله منذ ثمانينات القرن الماضي، بعد استشهاد شقيقه رشيد، الى نجله فيصل. عايش الراحل ما مر على لبنان في الحرب والسلم. بقي قلبه «على الشمال»، خائفاً على أبناء منطقته، ومحذراً «من الأعظم»

قبل أربع سنوات، مرّ الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي على بيت الرئيس الراحل عمر كرامي، في زيارة للاطمئنان عليه بعد وعكة ألمّت بصاحب العقد الثامن من العمر. سلام وكلام لأكثر من ساعة. قبل أن يودّع كرامي الابن، فيصل، الضيفين، وينزل معهما من المنزل في المصعد حتى مدخل البناء، عاد إلى حضرة والده، وأشار إليه بما قاله ميقاتي لرفيقه: «كلما زرنا الرئيس كرامي، وجدنا شيئاً نتعلمه منه».

على مدى مسيرته السياسية، حافظ الرئيس الراحل على علاقات مبنية على الاحترام والتقدير، مع خصومه قبل حلفائه. واعتنى «الأفندي» بـ«شعرة معاوية» حتى مع أكثر الأخصام شراسة. وهم لم ينكروا عليه زعامة محلية ولبنانية ميّزته عن غالبية السياسيين.

بعد اغتيال شقيقه الرئيس رشيد كرامي في الأول من حزيران 1987، في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، ورث عمر كرامي زعامة سياسية لا تقف عند حدود طرابلس، وحاضنة شعبية تنبع من التصاق بيت آل كرامي بواقع الناس، ومن بقاء أركان هذا البيت خارج الميليشيات وإمارات الحرب.

إثر اغتيال الرشيد، تسلم عمر رئاسة «حزب التحرر العربي» ورئاسة «هيئة التنسيق الشمالية»، التي كانت تعالج مشاكل وقضايا الحرب الأهلية في طرابلس والشمال في ظل غياب الدولة. وهي لم تكن المهمة الأولى، إذ كان قبل ذلك في عداد الفريق الاستشاري لشقيقه في مؤتمري لوزان وجنيف. بعد انتهاء الحرب الأهلية، جرى تعيينه نائباً عن المقعد السني في طرابلس الذي كان يحتله شقيقه، وتولى حقيبة وزارة التربية في عهد حكومة الرئيس سليم الحص، التي تشكلت بعد انتخاب الرئيس الراحل إلياس الهراوي.

كان تشكيل عمر كرامي حكومته الأولى في 24 كانون الأول 1990 في عهد الهراوي أمراً طبيعياً، واعترافاً بالدور السياسي لـ«عائلته» على مستوى زعامة الطائفة السنية والرئاسة الثالثة، منذ أيام والده عبد الحميد وشقيقه رشيد وصولاً إليه.

لكن «ثورة الدواليب»، التي أشعلها الرئيس الراحل رفيق الحريري، دفعت كرامي إلى تقديم استقالته وإطاحة الحكومة في 26 أيار 1992. مهدت هذه الاستقالة لقدوم عهد الحريري الذي ترأس حكومة ما بعد انتخابات 1992. لم يكن الودّ السياسي يطبع العلاقة بين الرجلين في ذلك الحين، إذ كان الأول قادماً من خارج نادي رؤساء الحكومات والعائلات السياسية التقليدية، ويسعى لاحتواء العائلات والالتفاف على حيثيتها بالعلاقات والمال، فيما كان كرامي متمسّكاً شرساً بالتوازنات السياسية التقليدية في لبنان. وشاب العلاقة بين الرجلين الكثير من التوتر، خصوصاً بعدما مدّ الحريري نفوذه السياسي والنيابي إلى طرابلس. لكن الأفندي بقي مدافعاً عن معقله ومعقل عائلته بلا هوادة.

شكل كرامي حكومته الثانية في 26 تشرين الأول 2004، ليكون ضغط وتداعيات ما بعد اغتيال الحريري الدافع لاستقالته الثانية، بعد 14 يوماً من الجريمة في 14 شباط 2005. واعتذر كرامي بعدها عن تشكيل الحكومة إثر تكليفه ثانية، وفضّل حتى عدم الترشّح إلى الانتخابات النيابية في بداية صيف 2005. عاد كرامي وترشح في دورة 2009، غير أنه لم يصل إلى البرلمان، بعدما كان فاز في 3 دورات انتخابية أعوام 1992 و1996 و2000 عن المقعد السني في طرابلس.

لكن أكثر ما أزعج كرامي وأثار استياءه ولوعته كان الإفراج بعد انتخابات 2005 عن سمير جعجع، «قاتل» شقيقه رشيد، بموجب قانون عفو اعتبره «عاراً ما بعده عار»، ما ترك فجوة كبيرة في العلاقة بينه وبين عائلة الحريري، وخصوصاً وريثه السياسي الرئيس سعد الحريري، إذ كيف يستقيم العفو عن قاتل رئيس حكومة من جهة، ومن جهة أخرى جعل لبنان يقوم ولا يقعد طلباً لمحاكمة قتلة رئيس آخر للحكومة؟

بعد « إسقاطه» في انتخابات 2009 ، إثر حصوله بمفرده بإمكانات مالية بسيطة ووسط محاصرة سياسية له، من قبل تيار المستقبل الذي رفض بشدة وجود أي شخصية سياسية تنافسه تفرده بزعامة الطائفة السّنية، على أكثر من ثلث أصوات المقترعين في طرابلس، أعلن كرامي أنه لن يترشح للانتخابات النيابية مجدداً، تاركاً المهمة لنجله فيصل.

بعد توزير فيصل في حكومة ميقاتي عام 2011، بعدما كان أحد أبرز المرشحين في العودة إلى السراي الحكومي مرة ثالثة، بعد 1990 و2004 ، بدا مطمئناً إلى أن الوريث السياسي لعائلة كرامي وضع قدمه على أول السكة. ويومها سألته «الأخبار»: «هل أنت راضٍ عن أداء فيصل في الحكومة؟»، ردّ وعيناه تبرقان بدمعة حاول إخفاءها: «الأيام ستعلمه»، قبل أن يضيف: «لقد أثبت أنه قدّ الحمل، ولا خوف عليه».

في صيف عام 2013، صعد إلى مصيفه في بلدة بقاعصفرين ــ الضنية، حيث قضى أياماً قليلة قبل أن يغادر إلى بيروت لتلقّي العلاج، وليغيب بعدها لأول مرة في صيف عام 2014 عن الضنية مع عائلته.

في ذلك الصيف قبل سنة ونصف، توافد إلى قصره بعض رؤساء البلديات وفاعليات الضنية الذين تعوّدوا زيارته بلا موعد والتحدث معه بلا تكلّف. يومها قال لهم: «لست مطمئناً إلى أحوال لبنان والمنطقة. في انتظارنا سنوات صعبة». قبل أن يختم: «الله يستر من الأعظم».