ما جرى ويجري في أفغانستان ليس فقط إنسحاباً أميركياً من هذا البلد الأسيوي بل خلط كبير للأوراق سوف يغيّر قواعد اللعبة السياسية في منطقة وسط آسيا.
تسلمت حركة طالبان السلطة في افغانستان بطريقة سلسة وهادئة ومنسقة مع الولايات المتحدة اثر مفاوضات إنطلقت في الدوحة عام ٢٠١٨ وقادها عن الجانب الاميركي السفير السابق زالماي خليل زادة وعن الجانب الافغاني (طالبان) الملا عبد الغني برادار. ومهما حاولت حركة طالبان الظهور بمظهر المعتدل في العام 2021، تبقى رمزاً للمجازر والابادات الجماعية.. ولنظام سلفي متشدد، طالما أن الكثير من ممارسات هذا التنظيم ما تزال حية في ذاكرة العالم بأسره، وطالما لم تبدأ قيادة طالبان الحالية بإجراء مراجعة نقدية لتجربتها في الحكم وخصوصاً لجهة فرض ما تعتقد انه يجسد الشريعة الاسلامية، فضلاً عن ابادة المعارضين واضطهاد النساء وقمع الحريات، وكلها ممارسات وسياسات لها أسسها المستمدة من مدارس دينية في باكستان وبعض مناطق افغانستان التي تُدرّس اسلاماً خاصاً يقوم على فتاوى ابن تيمية وغيره من رموز التشدد الاسلامي الذين لم يعتمد معظم العالم الاسلامي فتاويهم. اول ما ننتظره من طالبان هو اعلان امارة اسلامية تحكم وفقا للشريعة الاسلامية. اما مسالة اعلان “الخلافة الإسلامية”، فتبقى على المحك لانها تحمل في طياتها تدخلاً في شؤون المسلمين في العالم فضلاً عن انها تجذب شباباً مسلماً يرى في “الخلافة” هدفه المنشود. ترك الاميركيون وراءهم خزان بارود افغاني يمكن أن ينفجر في جميع الاتجاهات ألا وهو حكم طالبان. لقد أحسنت واشنطن إستخدام لعبة الجغرافيا من اجل تحقيق مصالحها السياسية من دون اي تكلفة. تقع افغانستان على حدود ايران بطول نحو ٩٠٠ كلم وطاجكستان نحو ١٣٧٠ كلم وباكستان نحو ٩٠٠ كلم واوزبكستان نحو ٢٠٠ كلم وتركمانستان نحو ٨٠٠ كلم والصين نحو 76 كلم وتحديداً بمحاذاة منطقة شينجيانغ الجبلية ذات الاغلبية المسلمة. روسيا الاتحادية ترتبط بعلاقات استراتيجية مع دول اسيا الوسطى منذ ايام القياصرة ثم الاتحاد السوفياتي وصولا الى الادارة البوتينية الحالية. من بين هذه الدول طاجكستان وهي الدولة الفارسية الوحيدة في اسيا الوسطى لكن غالبيتها من المسلمين السنة فيما باقي الدول من اصول تركية. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وقعت عام ١٩٩٢ حرب اهلية داخل طاجكستان بين الاسلاميين المتشددين في اقليم غورنو باداخشان في الجنوب الشرقي وبين العلمانيين بقيادة إمام علي رحمانوف في منطقة لينين اباد في الوسط والشمال. أدت تلك الحرب إلى مقتل ما بين خمسين إلى مائة ألف طاجيكي وأفضت إلى تسوية لمصلحة العلمانيين الذين أصبح قائدهم رحمانوف رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية وما يزال.. أفرزت تلك الحرب ظواهر أصولية متشددة عرفناها في منطقتنا مع إنضمام نحو الفي طاجيكي الى تنظيم داعش في سوريا وانشقاق قائد القوات الخاصة في طاجكستان مراد حليموف وانضمامه الى داعش في سوريا ايضاً.
أمعن رحمانوف في علمنة الدولة فمنع الحجاب عن النساء ومنع من هم دون ١٨ سنة من دخول المساجد وهناك انباء عن اغلاق نحو الفي جامع وتحويلها الى مدارس وحضانات اطفال ودور سينما. هذه الدولة اصبح على حدودها امارة اسلامية سلفية متشددة هي افغانستان، وبالتالي ستجد الاثنية الطاجيكية في البلدين نفسها حائرة بين نموذجين نقيضين (25% من الأفغان من الإثنية الطاجيكية). ومن المعروف ان الاوضاع الاقتصادية في طاجكستان متدهورة بينما تراهن حركة طالبان على مال ومساعدات أهل الخليج العربي وريع بيع مادة الافيون. يشكل النموذج السلفي الطالباني حافزاً لبعض الطاجيك وخصوصا في مناطق باخداشان للتمرد على النظام العلماني في طاجكستان، وهذا الأمر يُشكل استهدافاً لروسيا في حديقتها الخلفية، وبمعنى اخر محاولة خلق اوكرانيا جديدة في اسيا الوسطى. ايران التي كانت لها تجربة علاقات سيئة مع طالبان وعانت اقلية الهزارة الافغانية الشيعية من مجازر طالبان (باعوا النساء في سوق نخاسة واعدموا الدبلوماسيين في قنصلية ايران في مزار شريف) يبدو انها بنت علاقة حوار منذ عام ٢٠١٥ تطورت نحو إيجاد قنوات اتصالات دائمة. عندما دخلت حركة طالبان يوم الأحد الماضي الى بعض المدن الافغانية، توقف عناصر منها امام قنصلية ايران في حيرات وعرضوا خدماتهم على الدبلوماسيين الإيرانيين بحجة ان رجال الامن فروا من المنطقة. كما سجل قيام عناصر من حركة طالبان بنزع شعارات عاشوراء في كابول ومزار شريف لكن قيادة طالبان امرت باعادة الشعارات وكلفت مسؤولاً في مزار شريف بحضور مجلس عاشوراء في المدينة مع المواطنين الشيعة. هذه الممارسات تدل على عمق الاتصالات الايرانية مع طالبان وتدل ايضا ان ايران ليست اولوية حالياً بالنسبة إلى طالبان، بل يُتوقع ان تكون طاجكستان هي الاولوية الخارجية للحركة.
لكن مع اي انفجار للوضع في اقليم غورنو باداخشان سوف يتلقى المتمردون هناك دعماً من طالبان عن طريق امتدادهم الجغرافي في افغانستان. يبقى موقف ايران ملتبساً. هل تؤيد المتمردين الذين سبق ان دعمتهم في الحرب الاهلية ضد العلمانيين ما بين ١٩٩٢ و١٩٩٧؟ ام تقف الى جانب حليفتها الدولية روسيا وتصر على حماية مصالح الأخيرة في طاجكستان، لا سيما وأن الاصول الفارسية الطاجيكية تفرض علاقة مميزة مع ايران ولذلك يصبح للموقف الايراني تاثيره الكبير في هذا المضمار بالذات، فهل يقبل الإيراني بالحياد بين رحمانوف العلماني وباداخشان الاسلامية؟ ستختلط الكثير من الأوراق. طالبان والممول الخليجي والسيد الاميركي يريدون تقويض استقرار طاجكستان وضرب روسيا في خاصرتها الجنوبية. روسيا لن تسمح بسقوط نظام الرئيس امام علي رحمانوف. الموقف الايراني هو الذي سيُرجح كفة الميزان. يعوّل الاميركيون على طالبان لتفكيك الاتحاد الروسي وخلق بؤرة استنزاف في اسيا الوسطى لا سيما ان هناك قواعد عسكرية روسية ومنها القاعدة ٢٠٥ في طاجكستان. اذا كان المجاهدون الافغان اجداد طالبان قد اسقطوا الاتحاد السوفياتي هل يمكن للاحفاد تحقيق الهدف الاستراتيجي الاميركي بضرب الاتحاد الروسي؟ عودة الى ايران هل ترى انه اذا اكل الثور الابيض في روسيا فان دورها سيحين وستقع فريسة سهلة بيد الاميركيين؟