استغرقت المساعي الروسية بضعة أسابيع، أو طرفة عين فحسب، لتعود موسكو بعدها الى ما كانت عليه دائماً بالنسبة الى سورية. كلّ الرهانات على دور روسيا في ترتيب ظروف الحل السياسي وسط رضا ومباركة اميركيين، وكلّ اللقاءات التي جعلت منها محجّة للنظام والمعارضة وايران وسائر الدول المعنية، سقط سقوطاً هائلاً. ليس فقط لأن موسكو كانت في الأثناء تبني قاعدة جوية جديدة اتُّخذ قرارها قبل شهور، بل لأنها أوحت بأنها تقود «وساطة» سياسية بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن اميركا، لكنها جعلت من هذا السراب غطاءً لتدشين مرحلة تصعيد جديد في الحرب الدائرة. كان هذا التطوير للتدخل والوجود الروسييَن في سورية متوقعاً، ولم يكن السؤال هل يحصل وكيف بل متى، وقد جاءت الاجابة حين بات نظام بشار الأسد على وشك الانهيار، ولا يطمح الروس لإنقاذ النظام فحسب، بل أيضاً لإعادة تأهيله.
خرجت واشنطن من انكفائها لتعلن «قلقها» من النشاط الروسي المتنامي، ولا أحد يصدّق أنها فوجئت به، أو أنها لا تعرف أهدافه. لكن هل مردّ هذا «القلق» الى أن موسكو تجاوزت الإطار المتفق عليه، أم الى خدعة روسية اخرى. والأهم، ماذا بعد «القلق»؟ قال الأميركيون أن التدخل العسكري الروسي سيشكّل تغييراً جدّياً في مسار الصراع في سورية وسيجعل من أي تعهد روسي بإيجاد حل سياسي محلّ شك، ما يعني إمكان سحب «تفويض» اميركي بهذا الشأن، لكن الروس أثبتوا أنهم غير مبالين بذلك وأنهم يعملون وفقاً لخططهم التي تتلاقى أكثر مع خطط ايران، خصوصاً أن الطرفين يتقاسمان الوظائف والمصالح في سورية. وقال الأميركيون ايضاً، في ما يشبه التحذير، أن أي عمليات جوية روسية قد تتقاطع سلباً مع عمليات «التحالف الدولي» الجارية ضد تنظيم «داعش».
ردّ الروس بإبداء استعدادهم لـ «التنسيق» في اشارة الى أنهم باتوا فارضين أنفسهم على «التحالف» الذي استُبعدوا عنه، ولم يكتفوا بذلك بل دعوا الاميركيين الى التنسيق مع نظام الاسد ضد «داعش»، وخلال بضعة أيام تناوب مسؤولون روس على تكرار أن قوات النظام هي الأكثر قدرةً على محاربة التنظيم الإرهابي.
وهكذا أعاد التدخل العسكري الروسي المباشر الولايات المتحدة الى الواقع السوري الذي دأبت على التهرّب منه بإلقاء المسؤوليات والتكليفات على الآخرين. وفي ضوء ذلك يمكن فهم الاندفاعين المتأخرين لبريطانيا وفرنسا للمشاركة في ضربات جوية في سورية، وكذلك التغيير الذي أدّى الى انضمام تركيا الى جهود «التحالف» والاعلان عن «حرب شاملة» وشيكة ضد «داعش». صحيح أن هذه الدول استندت الى ذرائع شتّى (عملية التفجير في سوروش التركية، مجزرة السياح البريطانيين في تونس، هجمات «داعش» في فرنسا) لتبرير مواقفها وقراراتها، إلا أن الحراك الروسي كان عنصراً حاسماً في اقناع حلفاء اميركا بالمشاركة. بل ان بدايات التدخل الميداني الروسي كانت الدافع الرئيسي لزيارة جون كيري المفاجئة للقاء فلاديمير بوتين في سوتشي (ايار/ مايو الماضي)، رغم القطيعة، وكذلك ما تبعها من تنشيط للتشاور مع وزيري الخارجية، وصولاً الى لقائهما المشترك في الدوحة مع نظيرهما السعودي. فهذه كانت محاولات – أخيرة؟ – لجذب روسيا واغرائها ببعض الصفقات لإقناعها بـ «قيادة» حل سياسي في سورية، مع تليين بعض الشروط المتعلقة بمصير الاسد شخصياً فضلاً عن رموز نظامه.
في الأصل، لم تكن روسيا مؤهلة لمثل هذا الدور، لأنها طرف في الصراع، أو بالأحرى نصف طرف شريك للنصف الآخر الايراني، وكلاهما يدير شؤون النظام الذي يعرفان قبل سواهما أنه لم يعد أكثر من واجهة لهما. هذان شريكان متلازمان، يحتاج كلٌ منهما الى الآخر، ولا يستطيع أيٌ منهما الاستئثار وحده بالنفوذ على سورية النظام التي كانت، مع البرنامج النووي، من أبرز عوامل تعميق العلاقة الروسية – الايرانية. وبالنسبة الى روسيا لم تكن سورية النظام يوماً مفيدة ومجدية كما أصبحت في حقبتها الايرانية. لذلك، لم ولن يكون متوقّعاً أن تعتمد موسكو أي سياسة في سورية من دون موافقة طهران، ثم انها مقرّة بأن الطبيعة «المذهبية» لعلاقة ايران مع النظام والاستثمار الضخم الذي بذلته في سورية جعلاها أكثر قدرة على توجيه الاسد وأجهزته، بل أكثر كفاءة في التخطيط وفي ادارة الصراع.
وفوق ذلك يأتي التوافق الاستراتيجي المزمن بين روسيا وايران على مواجهة الولايات المتحدة، وما دام الاتفاق النووي يفتح أمام النظام الايراني أو جناح منه خيار الانفتاح على اميركا فهذا دافع آخر لروسيا كي تتمسّك بالشراكة في سورية، الموقع الاستراتيجي الأكثر أهمية حالياً لايران بعد العراق، ولتضمن حصتها من الصفقات الايرانية المزمعة بعد رفع العقوبات. في المقابل، ترافق الاتفاق النووي مع دعوة اميركية لإشراك ايران في حل أزمات المنطقة بالإضافة الى إشراك العرب، تحديداً المملكة العربية السعودية. ومع تنشيط التشاور الاميركي – الروسي واعطاء روسيا دوراً «قيادياً» لمعالجة الأزمة السورية اعتبرت ايران أن وجود طرف عربي سيهدّد مصالحها في التسوية وفقاً للسيناريو الذي يناسبها، ويفترض أن يناسب أيضاً مصالح روسيا. لذا وجب على الأخيرة أن تحدّد وجهتها.
كانت موسكو حسمت موقفها منذ الربع الأول للسنة الحالية مع توالي الانتصارات التي حققتها فصائل المعارضة السورية ضد النظام، لكنها كانت تبحث عن خطة شاملة ومتكاملة تستطيع الدفاع عنها لتبرير تدخلها المباشر بإرسال آلاف من العسكريين مع أسلحة وصواريخ متطوّرة لا تريد تسليمها الى السوريين، أو الى الايرانيين الذين يملكون الخطة المناسبة لكن تماسّهم مع الاميركيين في العراق حال دون تنفيذها، وقد طرحوها أيضاً بالنسبة الى سورية، اذ دعوا مراراً الى تعاون «التحالف الدولي» مع نظام الأسد. اذاً، فعنوان الخطة هو محاربة «داعش» ودعم النظام ضد الإرهاب، أما مضمونها فمختلف تماماً لأن الشركاء الثلاثة (روسيا وايران والأسد) يعتبرون المعارضة مجموعات إرهابية، أي أن الهدف من التدخل الروسي يرمي أولاً الى ضرب المعارضة لإحداث تغيير ميداني واضح لمصلحة النظام وبالتالي استكمال اعادة تأهيله بطرحه شريكاً في الحرب على «داعش»، فإذا لم توافق اميركا نظراً الى معارضة شركاء عرب وغير عرب، فإن «التحالف الثلاثي» سيستند عندئذ الى اتفاق مع حكومة الأسد «الشرعية» ليضرب «داعش» من دون التنسيق مع «التحالف الدولي».
هذا لا يعني أن روسيا أسقطت «الحل السياسي» من حساباتها، بل أنها وايران متفقتان على اسقاط المعارضة الحقيقية من أي حل لتستعيضا عنها بالمعارضة «المدجّنة» في الداخل، أو ما بات يُعرف بـ «معارضة موسكو» و «معارضة القاهرة» في اشارة الى الذين شاركوا في لقاءات نظّمت في العاصمتين لمعارضين اختيروا بعناية دمشق وطهران وموسكو وتعهّدت الأخيرتان ضمان الأمن الشخصي لمن اختارتهما. وبالطبع سيستخدم التقارب بين القاهرة والاسد لإضفاء «شرعية» عربية لأي ترتيبات سياسية يمكن التوصّل اليها على أساس بقاء الاسد ونظامه مع حكومة يشارك فيها هؤلاء المعارضون، من دون أن تُعتبر «انتقالية». غير أن الروس والايرانيين يعرفون، وكذلك المصريون، أن هذه لا تشكّل تسوية دائمة من دون «شرعية» المعارضة التي لا تزال ممثلة بـ «الائتلاف»، ومن دون مشاركة كبيرة من الكوادر المستقلّة، وبالتالي فهي لا تعني أن الاسد سيتمكّن من قيادة البلد الى الاستقرار.
اختارت روسيا اذاً التحالف مع ايران على التقارب مع اميركا، واختارت أن تتقدّم لحماية مصالحها بشراكة مع الاسد وايران وبقاعد جوية مستحدثة، غير مهتمة بأي ضمان اميركي لهذه المصالح. لكن الأخطر أنها اختارت المسار التقسيمي الذي رسمته دمشق وطهران، باعتباره الضامن الوحيد لمصالح «الثلاثي». لكن السيناريوات المقفلة كهذه لا تسهّل التسويات الدولية بل تؤخّرها، وبالتالي فإن التدخل الروسي سيشعل «أفغنة» الصراع ويؤججها، لأن ادخال أسلحة متطوّرة لحسم الصراع لمصلحة طرف سيدفع الى مدّ الطرف الآخر بأسلحة مكافئة، إلا اذا كانت روسيا تتحرك بموافقة اميركية في نهاية المطاف.