صار عمر الذكرى ربع قرن. خمسة وعشرون عاماً مرّت على مشهد الثالث عشر من تشرين الأول، يوم انتهت حقبة ميشال عون، الجنرال الذي صار رئيساً للحكومة وحاكماً بأمر المنطقة المسيحية التي كانت تحت سلطته.
ربع قرن فعل فعله في لبنان، في «الطائف» تحديداً الذي استدعى تنفيذه الإطاحة بـ «دولة الرئيس» وإخراجه من المعادلة.. وها هو اليوم يترنّح بين الحياة والموت، ينتظر تسوية أخرى لا تقلّ تأثيراً عن تلك أتت به الى النظام اللبناني، فتعيد إنعاشه أو تسقطه بالضربة القاضية.
ما أشبه اليوم بالأمس، في الحشد الشعبي أمام «بيت الشعب». لم يتلكأ العونيون في تلبية نداء زعيمهم، ليثبت الرجل أنه لا يزال قوياً، لا بل الأقوى بين أبناء ملّته. رغم كل المحطات الصعبة والانتكاسات، لا يزال ميشال عون قادراً على شدّ عصب ناسه، والوقوف أمامهم «زعيماً»، لم تتعبه السنون ولم تُنهكه المصاعب ولم تحبطه الإخفاقات. لا يزال الحلم نفسه، والعين على كرسي واحدة.
ما أشبه اليوم بالأمس، في تكتل القوى السياسية ضدّه. في العام 1990 تجمّع العالم كله ضدّه ليُخرجَه من «القصر» الذي أراد ولا يزال يسعى لدخوله رئيساً أول، من باب «الفخامة».
بالأمس أرادوه «جثة سياسية» لا حول ولا قوّة لها عاجزة عن مقاومة مدّ الشرعية الآتية على حصان التوافق الإقليمي – الدولي، واليوم هناك مَن يريد إضعافه وإبعاده عن الحلبة الرئاسية.. إن لم يكن إقصاءه. طبعاً ثمة فريق يتمنى لو أنّ التاريخ يعيد ذاته ولو بأداوت مختلفة، كي يخرج الرجل من المعادلة وتُعاد برمجة جدول اللاعبين على أساس أنّ رئيس أكبر كتلة مسيحية ليس من ضمنه. فيزيحون المرشح الأقوى عن اللائحة الذهبية، ويصيبون «حزب الله» في صميم جبهته الداخلية.
ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ المشهدَيْن متطابقان. في العام 1990 لم يجد الجنرال المحارب من خارطة دول العالم مَن يقف إلى جانبه، لا بل توافق شرق الكرة الأرضية مع غربها على الإطاحة به، وحتى الفاتيكان لم يلتفت له، بينما السعودية تحمّله حتى اليوم مسؤولية عرقلة تنفيذ «الطائف» ولم تنسَ أنّه وقف بوجه «مولودها» ورفض الصعود الى متن مركب السلام.
اليوم، الوضع مختلف كلياً. بات الرجل حليف تفاهم الـ4+1، الذي يبدأ من الضاحية الجنوبية ويمرّ بدمشق وبغداد وطهران وينتهي في قلب موسكو. لم يعُد وحيداً على حلبة المواجهة ولا في أجندة مطالبه. صار جزءاً من تحالف طويل عريض، حتى لو تباين منسوب الدعم بين مكوّن وآخر، ولكنه بالنتيجة لا يواجه منفرداً.
والأهم من ذلك الوضع الداخلي. مهما اختلفت نتائج استطلاعات الرأي وتباينت في أرقامها، فهو لا يزال يمثل «نصف المسيحيين». قد ترتفع هذه النسبة أو قد تنخفض، لا يهمّ لأنها لن تغيّر كثيراً في واقع زعامته. كما هو في قلب تحالف يمثل «نصف» اللبنانيين، يدعم وصوله الى رئاسة الجمهورية، حتى ولو بدت الآراء داخل هذا التحالف غير منسجمة كلياً تجاه هذا الدعم.
حتى على المستوى المسيحي صار المشهد مغايراً. مهما قيل عن ورقة «إعلان النوايا» أنها لم تأتِ بأي فائدة لـ «التيار الوطني الحر»، فإنّ المدافعين عنها يقولون بالفم الملآن إنها حيّدت سمير جعجع عن الواجهة وعن منبر التصادم مع ميشال عون. وهذا أبرز منافعها.
قبل ربع قرن، حمل ميشال عون البندقية كي يعطّل قطار التسوية، بينما اليوم يحمل سلاح الدستور كي يقف بوجه التركيبات التسووية التي تعمل على سحب ورقة الترشيح من بين يديه. لا يخجل من كونه معطلاً للاستحقاق الرئاسي ولا لنصاب البرلمان ولا حتى لعمل الحكومة، إذا اضطره الأمر. بنظره كل هذه الأوراق متاحة أمامه طالما هو لا يزال المرشح الأقوى والأكثر تمثيلاً لناسه، واستطراداً الأَوْلى بالرئاسة. بالنتيجة يقفل البلد من دون ضربة كفّ.. وهنا كلّ الفرق.
في تلك الحقبة، أزاحت تسوية «الطائف» الجنرال المشاغب لتُجلس الرئيس الجديد في القصر. اليوم ثمّة فريق يريد انتخاب رئيس ليطيح زعامة ميشال عون وكي يحافظ «الطائف» على ما تبقى من أنفاسه الأخيرة، وثمة فريق آخر يفضّل أولاً تنقيح «الطائف» قبل أن يأتي برئيس.
ولكن الأهم من ذلك كله هو ميشال عون. هو لم يتغيّر حتى لو أضيف الى عمره خمسة وعشرون عاماً. قد يكون الربع قرن زاده براغماتية وعقلانية، لكنه طبعاً لم يأخذ شيئاً من شراسته ولا من عناده أو تمسكه بأفكاره وخياراته.. ولا حتى من طموحاته.
من يُجالس الرجل في هذه الأيام يستنتج أنّ التحدي الذي سيواجهه خلال هذه الفتره، حقنه بإبرة حماسة استثنائية ضاعفت قدرته على المواجهة. يعترفون أنّ إكسير شبابه يتأتى من عشقه للوقوف على الجبهات مخاصماً. وها هو يستعدّ لجولة جديدة من كباش عابر للاصطفات الداخلية، ستكسر مجدداً كل المراهنين على ضعفه أو تراجعه.