هل من غايات عودة الولايات المتحدة بقوة على الساحة اللبنانية تثبيت حقيقة شَكّك فيها البعض في المرحلة القريبة الماضية؟ وهل ارتابت الولايات المتحدة من ابتعاد بعض السياسيين عن حضن العمّ سام مفضّلين مُجالسة «الدب الأبيض» بعد إعادة حسابات وإعادة تَموضع للكثيرين منهم كانت نتيجتها «الحجّ السياسي الجماعي» الى العاصمة الروسية؟
لا يمكن نكران الدور الدقيق والمتجدّد الذي لعبته روسيا في المنطقة بعد غياب، كما لا يمكن الجزم في فشل دورها كليّاً أو وساطتها في ملف إعادة النازحين السوريين أقلّه حتى الساعة، في ظلّ حماسة قلّ نظيرها من قبل الدولة اللبنانية إزاء المبادرة الروسية لمتابعة ملف النازحين السوريين، تبعها تَسابق سياسي على ترؤس اللجنة المكلفة متابعة هذا الملف مع الطرف الروسي الذي يبدو للبعض أنّ دورَه بَاء بالفشل على رغم من الجهود الدبلوماسية والرئاسية المتقدمة التي واكبته في سبيل إنضاجه، زِد عليها بروباغندا إعلامية تغمز الى دور القياصرة الروس عبر التاريخ مقابل تراجعٍ للدور الأميركي في المنطقة.
إلاّ أنّ الوساطة الأميركية بين إسرائيلي ولبنان، والتي يتولّى مهمتها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط دافيد ساترفيلد، إضافة إلى الزيارات الأميركية المكثّفة الى المنطقة، والى لبنان تحديداً، تُثبت عكس ذلك.
إذ يبدو أنه خارج إطار سوريا، بقي الدور الروسي، إن كان في العراق أو في لبنان، محدوداً. والمحاولات التي بذلتها روسيا لتثبيت دورها من خلال مشروع إعادة النازحين مُني بالفشل.
من جهة أخرى، أوضحت مصادر دبلوماسية مطّلعة على الملف الروسي في شأن عودة النازحين، بأنه لا يمكن القول إنّ المبادرة فشلت بل جُمِّدت بسبب عاملين:
– إيقاف التمويل من الجانب الأوروبي بضغط أميركي
– عدم إعلان العفو العام من جهة النظام السوري، فلم «يُقلّع» الملف لأنه كان بحاجة الى تمويل ودعم دولي، مشيرة الى أنّه عند انطلاق الملف إتّفق الرئيسان بوتين وترامب بعد قمّة هيلسنكي على عودة النازحين، وصرّحا معاً وتحديداً الرئيس الأميركي على ضرورة عودة النازحين الى سوريا. لكن بعد عودة ترامب الى الولايات المتحدة، شُنّت الحملات عليه وهاجمه الكونغرس واتُهم بالخيانة للقائه بوتين في قمة ثنائيّة. فتراجَع عن كل شيء وعن جميع الإتفاقيات، وأوقف التمويل الأوروبي في وقت تَستلزم عودة النازحين هذا التمويل بشدّة، إستناداً الى المبادرة الروسية.
أمّا من جهة النظام السوري، فكشفت المصادر نفسها أنّ العفو العام كان مطلوباً من قبل النظام بشكل أساسي لعودة النازحين، لكنّ الروس لم يستطيعوا انتزاع هذه الورقة من جانب النظام السوري ولا الضمانات لرجوعهم.
وعليه، توضح المصادر انّ المبادرة جُمِّدت بانتظار الاتفاق الأميركي – الروسي خلال القمّة المرتقبة في أواخر حزيران بين بوتين وترامب في اليابان، وفي حال اتفاقهما ستتحرّك المبادرة الروسية تلقائياً، لأنّ الاوروبيين جاهزون للتمويل خوفاً من تدفّق اللاجئين الى بلادهم، فيما تشير المصادر نفسها الى أن لا عودة للنازحين إلّا من خلال المبادرة الروسية – الأميركية لأنهما الطرفان الوحيدان القادران على تأمين الضمانات الأساسية لعملية العودة.
وبالعودة الى روسيا في لبنان، وبالإضافة الى تجميد المبادرة، فهي فشلت في إقناع الحكومة اللبنانية بقبول الهِبة الروسية العسركية، كما لم تكن قادرة على عقد استثمارات أو إعطاء أسلحة للجيش اللبناني ولا الى تنفيذ مشروعها، ولم تنجح في لعب دور الوسيط بين لبنان و»حزب الله»، ولا بين إسرائيل ولبنان. وحتى حين قرّرت الولايات المتحدة الضغط على إيران بواسطة العقوبات، وقفت روسيا إلى جانب أميركا، وفور إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني عدم التزام بلاده بالإتفاق النووي بعد تَنصّل ترامب منه، برز موقف متقدّم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين موجِّهاً اللوم الى روحاني الذي «أخطأ لأنه تنصّل من الإتفاق». كلّ ذلك يدلّ بوضوح الى الدور الأميركي الذي بقي الأساس في المنطقة، وأنّ لبنان تحديداً ما زال تحت المظلة الأميركية – الفرنسية.
المصادر التي تثمّن الدور الأميركي في لبنان، تلفت الى أنه إذا بَدا للبعض انّ هناك انحساراً له في لبنان في بعض المراحل، فالأمر لم يَعن حقيقةً هذا الأمر، بل ربما لانشغال الإدارة الأميركية بملفات أخرى تقدّمت على الملف اللبناني وكانت طارئة (الجزائر، فنزويلا وغيرها…). في وقت كانت ديبلوماسيتها في لبنان تراقب عن كثب ومطمئنّة الى الإستقرار الأمني النسبي فيه، ولكن واقعياً بقي دورها أساسياً في علاقات لبنان الخارجية.
وعلى رغم من أنّ لبنان يُعتبر اليوم أقرب الى المحور السوري الإيراني بحكم وضعيّة النظام القائم وتحالفاته، يبقى الدور العام الاستراتيجي في المنطقة لصالح التوجّه الأميركي، والدليل بروز هذا الدور في محطات عدة:
أولاً، من خلال ضمان استقرار لبنان.
ثانياً، من خلال ضمان حماية 1901 والحدود اللبنانية الإسرائيلية وعدم حصول اشتباكات.
ثالثاً، تسليح الجيش اللبناني بشكل منتظم ومتقدّم.
رابعاً، الإستثمارات الأميركية في لبنان، وإن كانت محدودة بحكم الوضع الاقتصادي والجمود القائم ولكن غطاءها يبقى أميركياً.
خامساً، الدور الديبلوماسي الذي تجدّد بقوة من خلال ترسيم الحدود، والتحرّك الأميركي الذي بدأ وسيستمرّ ناشطاً كما يبدو بقدوم ساترفيلد أولاً وبعده دايفيد هيل، ليعود ساترفيلد من جديد ويلحقه نائب وزير الخزانة الأميركية ووزير الخارجية مايك بومبيو، بالإضافة الى الموفدين الدبلوماسيين ووفود من الكونغرس الأميركي، آخرهم كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب «اليوت انغل» الصانع الأساس للقرار ١٩٥٩، أضف اليها الزيارات العسكرية الأميركية المتكرّرة والتي، وفق مصدر مطّلع، «غير مَعروف منها أكثر من المعروف».
سادساً، قدوم قائد القوات الجوّية في القيادة الوسطى الأميركية الجنرال «جوزف غواستيللا»، الذي يقوم بمهام قائد القوات الجوية في القيادة الوسطى التي يترأسها الجنرال «كينيس مكنزي» خلفاً للجنرال المتقاعد «جوزف فوتيل».
وفق ما تقدّم، يتّضح انّ الدور الأميركي كان وما يزال في لبنان منذ ١٩٥٨، وانّ زيارات ساترفيلد وغيره من المبعوثين الدبلوماسيين ستتكثّف في المرحلة المقبلة، ليتعزّز دور أميركا لبنانيّاً أكثر وأكثر. لكنّ السؤال المطروح لا يَكمن في بقاء الدور الأميركي أو في انحسار مفعوله، بل السؤال الأهم هو: هل هذا الدور سيكون مفيداً للبنان؟