حجزت تركيا «حصتها» في الخريطة السورية. دخول قواتها مدينة عفرين ونواحيها بدد حلم الكرد في «الفيديرالية الديموقراطية لشمال سورية». وتباهى رئيس الوزراء بن علي يلدريم بأن المناطق الواقعة غرب الفرات «باتت شبه مطهرة من التنظيمات الإرهابية». والهدف المقبل كما حدده رئيسه رجب طيب أردوغان هو القضاء على «التهديد الإرهابي» في منبج وشرق النهر من عين العرب وتل أبيض ومحافظة الحسكة وحتى القامشلي و… شمال العراق. لن توقف أنقرة عملياتها حتى طرد «وحدات حماية الشعب» من الحدود الجنوبية إذا لم تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة على خطة لإخراج هذه «الوحدات» من منبج. إنها ذروة شعور أنقرة بفائض القوة. إنها خلاصة ابتعاد الرئيس أردوغان في السنتين الأخيرتين عن شعارات «الثورة السورية». لم يعد يعنيه سوى الحرب على حزب العمال الكردستاني و «فرعه» في بلاد الشام، «حزب الاتحاد الديموقراطي». وكان بدل سياسته في الداخل والخارج جذرياً. اقترب من روسيا وابتعد lن حلفائه التقليديين. تخلى عن فترة السلام التي عمت بلاده بعد التفاهمات مع عبدالله أوجلان زعيم الحزب في معتقله. واغتنم فرصة فشل الانقلاب صيف 2016 ليجدد حربه على الحركة الكردية. ودغدغ مشاعر الحركة القومية المتشددة، فوقفت إلى جانبه في معاركه لتصفية مراكز القوى في صفوف حزبه «العدالة والتنمية»، ولتصفية خصومه من قوى إسلامية أخرى، خصوصاً حركة الداعية فتح الله غولن، وقوى وأحزاب ليبرالية وعلمانية. وأحكم قبضته على القضاء والمؤسسة العسكرية والإعلام… إلى أن عدل الدستور الذي منح سلطات واسعة لمنصب رئيس الجمهورية.
بعد دخول عفرين، لم يقض أردوغان فقط على حلم الكرد في ربط «إدارتهم» لهذه الناحية أو هذا «الإقليم» بـ «إدارتي» إقليمي الجزيرة والفرات، في إطار «الفيديرالية» التي ينشدونها. بل خطا للمرة الأولى من سبع سنوات على انفجار الأزمة في سورية، نحو تنفيذ وعيده. كان قبل ذلك أغرق الساحة الإعلامية بتصريحات وتهديدات وزعها شمالاً ويميناً. لكن الوضع بدأ يتبدل منذ نحو سنتين، بعد تقدم قواته نحو الباب وجرابلس وعفرين أخيراً. لم يعد الغموض والارتباك يلفان مواقفه السياسية. أمسك بمقاليد السلطة في الداخل، وتحول رقماً صعباً تحتاج إليه موسكو، وواشنطن أيضاً. من هنا، يجب الأخذ على محمل الجد إعلانه في ذروة «نصره» الأخير أن قواته ستواصل حربها حتى إخراج «وحدات حماية الشعب» من منبج وصولاً إلى القامشلي و… سنجار في العراق! علماً أن مثل هذا «المشروع» دونه عقبات لم تعترض حربه على عفرين. لقد أفاد في عملية «غصن الزيتون» من سكوت الأميركيين الذين أبلغوا حلفاءهم الكرد أنهم ليسوا موجودين غرب النهر وليسوا معنيين تالياً بالدفاع عن هذه المنطقة. مثلما أفاد أيضاً من غطاء روسيا التي وظفت مقعده إلى جانبها في آستانة لترسيخ مشروعها في بلاد الشام. وأبرمت معه «صفقات» مقايضة لم تكن حلب أولها ولا إدلب أو الغوطة الشرقية لدمشق آخرها، في مقابل إطلاق يده ضد «الوحدات» الكردية شمال سورية. وليس من باب المصادفة أن تدور معركتا الغوطة وعفرين في توقيت واحد! وأفاد أيضاً وأيضاً من تفاهمه مع إيران التي لا ترغب في تنامي الشعور الاستقلالي للكرد. ويقلقها قيام «إدارات» مستقلة عن دمشق ونظامها الذي بذلت الكثير في سبيل بقائه واستمراره… فيما هي منشغلة أكثر فأكثر في صراعاتها الداخلية.
يدرك الرئيس التركي جيداً أن خريطة «تقاسم» سورية باتت واضحة المعالم: غرب البلاد ودمشق والمدن الرئيسة وساحلها للنظام ومن خلفه روسيا وإيران. والشمال لتركيا. والشرق والشمال الشرقي للكرد ومن خلفهم الولايات المتحدة. والجنوب للأردن وإسرائيل. ويعرف المتصارعون حدود نفوذهم ولا مجال لارتكاب أخطاء تدفع هؤلاء «الكبار» إلى التصادم المباشر لتعديل هذه الحدود. وحتى موسكو التي تخوض معركة سياسية قاسية مع واشنطن وتصرح كل يوم بأن القوات الأميركية قوات احتلال، عبرت بوضوح أنها ليست معنية بقتال هذه القوات. بل جل ما تبغي هو استمرار التنسيق تفادياً لأي حادث غير مقصود. ومهما بلغت حدة الأزمة السياسية بين الرئيس أردوغان وإدارة الرئيس ترامب بسبب موقفها الداعم لـ «قوات سورية الديموقراطية»، لا يمكن الزعيم التركي أن ينظر إلى تدخل أميركا «احتلالاً» وغير قانوني، في حين يتناسى أن تدخله أيضاً في الشمال السوري تعده دمشق احتلالاً وغير قانوني. كما هي حال قواته في قاعدة بعشيقة شمال العراق الذي تنادي حكومته يومياً بخروجه منها!
من هنا، لا يمكن الرئيس أردوغان دفع قواته نحو منبج وما بعدها من دون التفاهم أو الاتفاق مع واشنطن. صحيح أن الدولتين الكبريين، روسيا والولايات المتحدة، تحتاجان إلى بلاده وموقعها وقوتها وعلاقاتها في الميدان السوري، لكنه لا يمكنه أن يواصل نهج سياسة متوازنة بين هاتين الدولتين، خصوصاً في حمأة تصادمهما المتصاعد يومياً. ولعل الظروف التي رافقت حربه على عفرين توفر مساحة لحوار جدي مع إدارة الرئيس ترامب التي لم تغلق باب التفاهم على تسوية للوضع في منبج. ثمة مصلحة مشتركة لإبرام اتفاق واسع بين الطرفين. تدرك أنقرة جيداً أن حضور الأميركيين باق في مناطق شمال شرقي سورية وشمال العراق عسكرياً وديبلوماسياً. وإن إدارتهم التي يحتل المتشددون مواقعها تدريجاً بعد مايك بومبيو وجون بولتون ستزداد تمسكاً بالقواعد العسكرية في هذين البلدين، خصوصاً أنها لن تترك المنطقة ساحة للرئيس فلاديمير بوتين. بل ستحتفظ بأفضل أراضي سورية مياهاً وزراعة ونفطاً. وستظل تطل على نفط العراق والخليج، خصوصاً أيضاً أنها تصعّد يومياً مواجهتها مع إيران. ولا تزال تصر على قطع الجسر القائم من طهران إلى شاطئ المتوسط عبر الحدود بين العراق وسورية. مثلما تدفع بأوروبا من أجل تعديل الاتفاق النووي وتطويق تمدد الجمهورية الإسلامية في الشرق الأوسط ووقف برنامجها الصاروخي.
ولا شك في أن تقليص نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة، يخدم مصلحة تركيا مثلما يخدم مصلحة أميركا وحلفائها التقليديين في المنطقة العربية. ويمكن واشنطن أن تقدم ضمانات فعلية إلى أنقرة في شأن مستقبل الحركة الكردية والحد من طموحاتها الاستقلالية. وليس أدل على ذلك من موقفها المعارض الاستفتاءَ في كردستان واستقلال الإقليم. ويمكنها بالتعاون مع قادة الإقليم العمل على ضبط انتشار حزب العمال من سنجار إلى شرق سورية. هذه المعطيات تمثل فرصة لفتح باب الصفقة بين واشنطن وأنقرة توفر على الرئيس أردوغان خوض معركة طويلة ومكلفة أياً كانت قدرات جيشه. ذلك أن مواصلته الحرب ستثير مشاعر الكرد في الداخل التركي وخارجه. وقد بعث متظاهرون في ديار بكر احتفالاً بعيد النوروز قبل أيام، بتحذيرات إلى أنقرة بأنها تجازف بإثارة العنف في الداخل إذا واصلت هجومها في سورية. وتوفر الصفقة على أردوغان أيضاً الخروج من «أسر التحالف الثلاثي» مع موسكو وطهران وقواعده وإملاءاته، فلا يظل يحتاج إلى رضا «شريكي الضرورة» في كل خطوة باتجاه سورية.
حتى الآن، نجح أردوغان في إطلاق يد الجيش في الحرب على حزب العمال وعلى «وحدات حماية الشعب»، ولم يقصر في ضرب رموز القوة السياسية الكردية، حزب الشعوب الديموقراطي الذي دخل البرلمان في انتخابات 2015. لكن حزب أوجلان لم يتردد في التمدد وربط الجبهة الشرقية (التركية) بمناطق انتشار الكرد شمال شرقي سورية، عبر دخول مناطق سنجار ونواحيها بداعي الدفاع عن الإيزيديين في هذه المنطقة بعد انتشار «داعش» فيها وارتكابه الفظائع في هذه الأقلية الدينية. ولا شك في أن الرئيس التركي يدرك خطورة الطوق الذي ضربه حزب العمال وشمل الحدود الجنوبية لبلاده. لذلك، لم يتوانَ عن التهديد بنقل المعركة إلى سنجار أيضاً. وهو ما رفضته بغداد التي عبرت عن معارضتها التدخل العسكري التركي في سنجار حيث تعتقد أن نحو أربعة آلاف من «العمال» ينتشرون في هذه المنطقة. ولا تخفي «وحدات حماية الشعب» مشاركة عناصر كردية تركية في حربها على «داعش». إن نقل المواجهة بين أردوغان وحزب أوجلان خارج تركيا خطوة خففت عن كاهل الطرفين بعض أعباء المواجهة في مسرح العمليات الداخلي. لكن هذا الوضع لن يدوم بعد حرب عفرين. ومن مصلحة أنقرة، في عز نشوتها بفائض القوة، أن تبحث عن صفقة سياسية مع واشنطن يتحمل بموجبها الطرفان مسؤولية الحفاظ على مناطق انتشار قواتهما بعيداً من عودة النظام السوري وحلفائه إليها. ومن دون هذه الصفقة التي لا تبدو مستحيلة، لن يكون سهلاً على الرئيس أردوغان دفع «غصن الزيتون» نحو منبج التي تجوبها الآليات الأميركية إلى جانب «قوات سورية الديموقراطية».