قدم هذا المُجالد من ساحات المعارك إلى ساحات السياسة. انفتحت في وجهه أبواب الجحيم لكنها لم تقدر عليه. كان قدره أن يكون عكس التيار، حتى أصبح هذا العكس تياراً يحمل اسمه. حمل ميشال عون في البداية أحلام وأماني جيل مسيحي متمرد على ميليشيات الحرب، بقدر تطلعه إلى السيادة التي خسرها البلد في معامع حرب الداخل وتسويات الخارج. شكّل الرجل حالة سياسية غير نمطية مع حربه على الفساد، استطاع فيها أن يفتح كوّة في أسوار الطوائف نفذ منها عبر مدخلين اثنين: انفتاحه الاستراتيجي على «حزب الله»، وقد أتاح له هذا أن يطل على المساحة الأوسع من الساحة الشيعية، والثاني تكفلت به طبقة الفساد، التي كلما فاحت رائحة من روائحها كسب الجنرال مساحة جديدة، برغم الحملات المسعورة ضاربةً على أوتار طائفية أو استهدافٍ شخصي.
يُعتبر الرئيس عون حالة غير مسبوقة بين نادي الرؤساء، إذ لم يعرف لبنان أحداً منهم جاء إلى السلطة وهو قوي. بل إن من أمكنه تشكيل قوته فعلها وهو على رأس السلطة، ممسكاً بخيوطها ومفاتيحها، مثل كميل شمعون والشمعونية، وفؤاد شهاب والشهابية، مع الفارق النوعي بين التجربتين. وحدها «العونية» ظهرت قبل وصول قائدها إلى سدّة الرئاسة. وقد جاءت بزادٍ من جملة قيم وسيرة نزيهة لصاحبها، بدليل مسكنه المتواضع في الرابية وبهتان البروباغندا التي حاولت المسّ بنظافة كفه. بهذه الطبيعة والطبع، بات عون نسخة غير مماثلة لرؤساء ما بعد الطائف باستثناء الرئيس لحود الذي يعتبر أسطع مثال للمشروع الإصلاحي، لكن المفتقر إلى العصب الشعبي والتنظيمي، فكيف وهو يترافق بصلاحيات دستورية محدودة. لكن هذا هو عكس الحال مع الرئيس عون، حيث يشكل مدّه الجماهيري وحضوره النيابي الوازن تعويضاً موضوعياً يجعله يتجاوز تقليص صلاحيات الرئاسة في «الطائف». ولعل هذا بالتواتر زاد من رجاء جمهور واسع من اللبنانين إمكانية ليّ ذراع شبكة الفساد الحاكمة. لكن ما سبق يظل لزوم الشرط، لا كفايته للولوج بمشروع إصلاحي. شروط اللعبة هنا مختلفة، فمعركته مع الفساد المتجذر هي أصعب المعارك، وحيث فيها تسقط خطوط التماسّ والجبهات. هي أشبه بحرب العصابات، ساحتها أدغال المؤسسات والملفات الملغومة، ومداها اثنان وسبعون شهراً من سنوات حكمه، ليحكم بعدها التاريخ. وفي هذه الحرب تغيب المقاربات الاستراتيجية التي عبر عنها الجنرال العسكري خلال حربه على سوريا بقوله: «أنا عسكري، وطبيعة ثقافتي أنّ من تحاربه اليوم يجب أن تتفاوض معه غداً..». في حربه هذه لا مكان للتفاوض، لأن طبيعة المواجهة لا تقبل أنصاف الحلول. فهل يوجد في الدنيا معركة ضد الفساد تنتهي بلا غالب أو مغلوب؟
لعل أخطر الملفات في هذا «الجهاد الأكبر» ثلاثة. أولها الدين العامّ الذي يتزايد بوتائر عالية، حتى بلغ بحسب «جمعية المصارف» أكثر من 71 مليار دولار، وبعض الاقتصاديين يرفعونه إلى 80 ملياراً، أي ما يبلغ 140 في المئة من الناتج المحلي، فيما كان لعام 2005 حوالي 51 في المئة. هذه النسبة المتصاعدة من غير ضابط مرشحةٌ للتعاظم وصولاً إلى الكارثة. ولكي نتلمس مدى خطورتها، نطرح المقارنة مع دولة مثل سوريا. فبعد كل هذا الدمار والحرب، فإن حجم الديون لم تصل إلى 73 في المئة من الناتج المحلي، بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وفي بلد مثل السودان بلغت 83 في المئة بحسب صندوق النقد الدولي، برغم الحرب الأهلية وتداعيات تقسيمه. وبلغت 85 في المئة في موريتانيا البلد الفقير. لا وجود للصدفة في الحياة السياسية، فقد كان المطلوب عمداً تفخيخ الجمهورية بهذا الدين كي تكون أسيرة الخارج، وكان الاقتصاد هو المدخل.. اقتصاد ريعي بلا قاعدة أو ركيزة مادّية ثابتة، قائمة على صناعةٍ أو زراعة.
ثاني الملفات الكبرى هو قضية الوافدين السوريين الذين باتوا بأعداد تفوق المليون وثمانمئة ألف شخص. وبقدر ما يشكل هؤلاء من أعباء اقتصادية واجتماعية على لبنان، فإن هذا العدد شرع الأبواب للشياطين كي توسوس في صدور العديد من اللبنانيين عما إذا كان هذا «اللجوء» سيتحول إلى إقامة دائمة، في إطار مخطط يستهدف تغيير التركيبة الديموغرافية في لبنان. ولعل ما زاد من الشكوك أن بعض أماكن وجود اللاجئين شكلت بيئة سمحت بتسلل الإرهاب، وهو أمر قابله نأي حكومي عن معالجة المشكلة تحت مسمى «النأي بالنفس». والحقيقة أن هذا «النأي» أراده البعض غطاءً لقطيعة سياسية مع دمشق وتنصلاً من مسؤولية انخراط بعض لبنان في الأزمة السورية. لقد آن أوان إنهاء هذه القطيعة وتفعيل القنوات الديبلوماسية، ومنها «المجلس الأعلى السوري ـ اللبناني»، ليكون باباً لحل «مشكلة اللاجئين السوريين». أما فساد الإدارات فيبقى ثالثة الأثافي، وهو فساد محمي من كبار، وهنا الطامّة الكبرى. وهو يتمظهر بأشكاله المختلفة من سرقة وهدر وسوء إدارة. وقد احتل لبنان المرتبة 123 من أصل 168 دولة بحسب «منظّمة الشفافيّة الدوليّة». كما تسبب هذا الفساد بأشكاله المختلفة بخسارة 10 مليارات دولار، منها 5 مليارات خسائر مباشرة، بحسب ما ذكر وزير الاقتصاد المستقيل آلان حكيم، وذلك على مدار السنوات العشر السابقة. وقد قام هذا الفساد على هامشين اثنين، المحسوبية السياسية وغياب القضاء أو تغييبه. ولا مجال لإصلاح ما أفسده السياسيون إلا بتفعيل دور هذا الأخير وحمايته. وتفعيله يتطلب حملة تنظيف تطال بعض الأسماء المشبوهة أو غير الكفؤة في الجسم القضائي. أما حمايته، فتتم بتعديلات نوعية في القوانين تفعّل استقلاليته، وتحرره من وصاية السلطة الإجرائية.
ذلك وغيره هو «الجهاد الأكبر» بحق. وهو التحدي الذي يفوق تحدي العودة إلى القصر على أسنة 83 رمحاً.