في الطريق إلى آستانة رسمت الأطراف الراعية للمفاوضات آلية الوصول إلى العاصمة الكازاخية٬ ولكنها على الأرجح ستعود منها عبر مسالك جديدة متعرجة أو التفافية لا تشبه الخرائط التي رسمت في طريق الذهاب٬ فالعائد منها لن يستطيع تجاوز المطبات والكمائن التاريخية التي حكمت وتحكمت بكل القوافل التجارية التي تنقلت عبر طريق الحرير٬ من سور الصين حتى أسواق حلب٬ وهو الطريق الذي تنافست الإمبراطوريات المتصارعة في اللعبة الكبرى من أجل السيطرة على ممراته٬ وقد عاد ليكون بوابة روسيا إلى الأورواسياوية وأبرز حلفائها بعد أن خسرت كييف٬ وهي ضرورية للكرملين كونها دولة منتجة للطاقة وتستخدم جغرافًيا كمعبر أساسي للطاقة باتجاه الصين والمياه الدافئة٬ فالمدينة التي بناها الروس كقاعدة عسكرية لجيوش القياصرة سنة 1810 أثناء الحملة على خانات آسيا الوسطى٬ ثم حولها الرئيس نور سلطان نزار باييف إلى عاصمة سياسية سنة 1997 يتحدث أهلها لغة مشتقة من التركية٬ كما أن الكازاخ ينتمون إلى الأغلبية الإسلامية٬ وهذه عوامل ساعدت في اختيارها مكانًا نموذجًيا للشركة الروسية التركية٬ وهي شركة فرضت على المشاركين الآخرين في امتحان آستانة أن يدركوا سريًعا خلفيات الاختيار الروسي لها والإصرار على نجاح دورها٬ لكن نجاح المفاوضات في آستانة لن يتحقق من دون وجود خاسر٬ مما سيتطلب اعتراف أحد الأطراف المشاركة بخسارته ولو نسبًيا٬ وهذا شبه مستحيل٬ فبين نجاح المفاوضات وتحديد الأحجام والحصص سينقلب المشهد وتتغير التحالفات وتختلف الأولويات٬ فمن ذهبوا إليها شركاء من الممكن أن يعودوا منها خصو ًما٬ ومن الممكن أن من ذهبوا إليها خصو ًما قد يعودون منها شركاء٬ فما بعد آستانة يمكن تطبيق معادلة حسابية تجمع بين الرياضات والسياسة عندما يستخدم علم الحساب في تقدير الموقف عندها: «يصبح المقبل باتجاهك عن بعد 1000 متر أقرب إليك من الذي يقف على مسافة متر واحد منك٬ لكنه يستعد للسير باتجاه معاكس للاتجاه الذي تسيره إليه».
لا تستطيع موسكو العودة من آستانة دون تحقيق نجاح ملموس٬ وهو نجاح مرتبط في تطبيق بنود ما سيتم الاتفاق عليه٬ مما سيطلب تعاون الحلفاء والشركاء قبل الخصوم٬ ففي آستانة لمست موسكو أنها تستطيع أن تضمن الأتراك والمعارضة السورية المسلحة٬ لكنها من المستحيل أن تضمن طهران وميليشياتها٬ كما أزعجتها مراوغة النظام٬ مما دفعها إلى تهديده مباشرة بضرورة الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار٬ وهي إشارة روسية صارمة للأسد بضرورة التزامه أي ًضا بما سيتم الاتفاق عليه في آستانة٬ إضافة إلى تخوفها من ميله إلى الجهة الإيرانية٬ كون طهران أكثر تصلًبا في المواقف٬ حيث يتشارك الطرفان في خيار الاستمرار في الحرب حتى هزيمة ما تبقى من المعارضة.
وحده فريق المعارضة السورية المسلحة الذي يمثل فصائل من الجيش السوري الحر في مفاوضات آستانة يستطيع أن يحقق ما يمكن وصفه بالإنجاز٬ إذا استطاع العودة من العاصمة الكازاخية باتفاق ثابت لوقف إطلاق النار في كل أنحاء سوريا وفي تنفيذ الإجراءات الإنسانية المتفق عليها ضمن بنود القرار الأممي رقم 2254 والتمسك ببيان «جنيف1 «كمنطلق لأي علمية انتقال سياسي في المستقبل٬ مما يفرض على موسكو وأنقرة عدم استثناء المعارضة السياسية٬ وخصو ًصا الهيئة العليا للمفاوضات التي تحظى بدعم خليجي وأوروبي٬ فالاستعجال التركي لتوافق مع الروس يكشف عن تباين فاضح داخل المؤسسة التركية الحاكمة التي أدارت التحولات الجيوستراتيجية لأنقرة بعد فشل الانقلاب العسكري٬ مما أدى إلى إضعاف تفاهماتها مع عواصم إقليمية مؤثرة لا يمكن تجاوزها في صناعة الحل السوري.
تنظر طهران إلى تفاصيل آستانة فيساورها القلق وتضطر إلى العودة وحيدة فتستفزها وحشة الطريق٬ فتستنفر أدواتها للرد٬ حيث لن يختلف تعاملها مع توافقات آستانة عن كيفية تعاملها مع ما سبقها٬ لم ولن تلتزم طهران بوقف إطلاق النار قبل تأمين سوريا المفيدة نهائًيا٬ وستستخدم التوافق على محاربة «داعش» وجبهة النصرة لكي تقوم بضرب كل الفصائل العسكرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب٬ خصو ًصا تلك المدعومة من أنقرة رًدا على إصرار الخارجية التركية على انسحاب كل المقاتلين الأجانب من سوريا وإصرار المعارضة السورية على عدم البحث عن مصير جبهة النصرة٬ إذا لم يتم البحث عن مصير الميليشيات الطائفية الإيرانية.
تملك طهران ما يكفي من تفاصيل ميدانية كي تعرقل خطط موسكو٬ ما بعد آستانة تكتسب موسكو بعًدا سياسًيا في الأزمة السورية لم تحصل عليه لولا التعاون التركي٬ لا تجد المعارضة السورية غير الحسرة على ما باتت عليه٬ وحده الأسد ونظامه يرى حقيقة ما بعد آستانة٬ ويعلم أنه لا يتحمل عواقب فشلها إذا تسبب ذلك باشتباك إيراني روسي٬ أما نجاحها فسيحوله حت ًما إلى الحلقة الأضعف.