في كلّ المراحل السابقة، وعند وقوع أي هزّة أو تسجيل إنجاز، يخرج بعض المسيحيين ليمارسوا هوايتهم المفضّلة، وهي الندب والتحسر على الأوضاع التي وصلوا إليها، فيما يحجبون أنظارهم عن حجم العودة الكبيرة الى السلطة والقرار التي تحققت الأسبوع الماضي بقيادة مارونية شرسة، إستطاعت أن تستميل بعض العواصم العربية والغربية الى صفها، لتخرج بتسوية تشريعيّة مقبولة وُصفت بأنها إنتصار لمبدأ الشراكة في الحكم والوطن.
بعيداً عما آلت إليه الاتصالات بشأن الجلسة التشريعية، وما رافقها من تسويات، فإن الساحة المسيحيّة شهدت زهواً ونشوة لا يمكن إخفاؤها بصرف النظر عن تحقيق بعض المطالب أو عدمه. النصر الماروني الحقيقي تمثل في إستفاقة الأحزاب المسيحية من السبات العميق وتوحّدها للمرة الأولى منذ عام 1968 تاريخ انتصار الحلف الثلاثي على النهج.
هذه الوحدة التي تحققت بين «ليلة وضحاها» أربكت القيادات الإسلامية وجعلتها تعيد حساباتها بعدما كانت الأوضاع متجهة الى إحياء الانقسام الذي شهدته البلاد إبان الحرب الأهلية، يضاف اليها شعور مسيحي واسع بالغبن، بينما كان المسيحيون في تلك المرحلة متهمون بالإستئثار بالسلطة، وبأن «المارونية السياسية» تأكل «البيضة وتقشيرتها».
بعد الوصول الى التسوية التشريعية، جلست الأحزاب المسيحية والكنيسة المارونية والرهبانيات لتقويم تجربة «وحدة اليومين»، في وقت لم يفهم حتى كوادر الأحزاب ماذا حصل، اذ رأوا انفسهم فجأة جنباً الى جنب، «القوات» دقت النفير وأرسلت الى كوادرها البلاغ الرقم واحد، «التيار الوطني الحرّ» عدّ العدة للحشد، والكتائب اللبنانية إستنفرت، ووصلت هذه البلاغات والتحضيرات الى مسامع كوادر الأحزاب الاسلامية في «8 و14 آذار» وبالتأكيد الى قياداتها، عندها أدركوا أن الامر ليس مجرد تهويل، خصوصاً أن «القوات» حزب منظّم ولا يجيّش قاعدته من دون أن يكون هناك تحرك فعلي، والدكتور سمير جعجع لا يُقدم على أي خطوة إذا لم تكن جدية.
وفيما كانت الوساطات تتساقط الواحدة تلو الأخرى، والتجييش الماروني والمسيحي بلغ الذروة ليل الثلثاء- الأربعاء الماضي، بدأت القيادات الاسلامية تعيش صراعاً بين الرضوخ للمطالب المسيحية، أو مواجهتها، وعاد الى ذهن رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط إصراره على مواجهة العماد ميشال عون عام 2005 والنتائج التي ترتبت عنها.
وجنبلاط الخائف دائماً من عودة زمن الموارنة الاقوياء، درس خطواته جيداً، وتراجع، وفضّل عدم الإصطدام مع «الإستفاقة المارونية»، بعدما كان قد صرّح أن القيادات المسيحية توصل بالبلاد الى الانتحار، فأتاه الرد سريعاً من جعجع قبل عون.
كل هذه المعطيات والشراسة المارونية في المواجهة رفضاً للتشريع ما لم يدرج قانوني استعادة الجنسية وقانون الانتخاب، ذكّرت بفترة حكم الموارنة، وإشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في حفلة تجييش قاربة حدّ الجنون، في حين كان بعض المسلمين يتمنون عودة هذا الزمن عندما كانت البلاد توصف بـ«سويسرا الشرق».
ذهب الجميع الى التسوية، وحقّق المسيحيون وحدتهم وثبّتوا تفاهمهم، أما الإنتصار الثاني الأهم، فكان إقرار قانون استعادة الجنسية الذي يوازي انتخاب رئيس للجمهورية وإقرار قانون الانتخاب.
فبعض الأصوات خرج ليقول إن المغتربين لن يفكروا بالعودة الى بلد تغمره النفايات، إلّا أن الجواب بسيط وهو: من يعرف كيف تدور الأيام، فلبنان بلد نفطي وبعد سنوات سيستخرج، وبالتأكيد فإن اللبناني المغترب سيعود للعمل في بلده مثلما ذهب الى أقاصي الأرض بحثاً عن رزقه، فهو لم يهاجر للاستجمام او الإستمتاع بالطبيعة، وبالتالي فإنّ قانون الجنسية هو إنتصار وتخطيط لأمد بعيد.
لم يكن الموارنة يرغبون في أن تتجه الأمور الى مواجهة إسلامية- مسيحيّة، بل إن مطالبتهم باستعادة الجنسية هي لجميع اللبنانيين وكذلك إقرار قانون إنتخاب عادل، والخطوات المقبلة بحسب معراب والرابية ستُركّز على قانون الإنتخاب وتكريس مبدأ التفاهم وتفعيله، حيث يؤكد المسيحيون أن عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، وزمن الإستضعاف قد ولّى، وهم باتوا جاهزين للبحث في أي نظام يريدون، بعدما رمّموا علاقاتهم ووحّدوا قواهم، وأثبتوا أنّهم مستعدين للتصعيد ساعة تدعو الحاجة متخطين كل الإصطفافات الداخلية والمحاور الإقليمية.