مضت عشرة أعوام كاملة على التقارير الإعلامية التي تسربت عن محللين تابعين لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، حول التحالف الموضوعي الذي رأوا أنه نشأ بين جورج دبليو بوش من جهة وأسامة بن لادن من جهة اخرى.
ففي تموز 2016، كشف الكاتب والباحث الأميركي روبرت باري، في سلسلة أبحاث مطولة، أن خبراء لانغلي انتهوا إلى خلاصة تحليلية مفادها أن زعيم تنظيم «القاعدة» اختار بشكل مدروس ومقصود أن يكون حليف الرئيس الأميركي يومها، في معركة إعادة انتخابه، ضد منافسه آنذاك جون كيري. كانت أعوام أربعة قد مضت على الحرب المعلنة بين سيد البيت الأبيض ونزيل جبال تورا بورا. وكانت مقدرات الولايات المتحدة كلها مجنّدة علناً لرصد مخبأ الرجل الذي وجّه الضربة الثالثة ضد الأراضي الأميركية. بعد استهداف ألمانيا النازية للسفينة الأميركية «لوسيتانيا» الذي أدخل واشنطن الحرب الأولى، وبعد استهداف اليابان بيرل هاربور الذي زجّ أميركا في الحرب الثانية. جاءت الضربة الثالثة في 11 أيلول 2001، لتدفع الدولة العظمى إلى خوض الحرب العالمية الثالثة. كان بطل تلك الحرب، بوش الابن، يخوض معركة انتخابية صعبة ضد منافسه الديمقراطي. وكانت شعارات الأمن الوطني تطغى للمرة الأولى على سجالات الاقتصاد والرعاية الصحية وفرص العمل وجدار المكسيك واتجاهات وول ستريت. فجأة، وقبل أربعة أيام فقط من ثلثاء الحسم الرئاسي، خرج أسمة بن لادن في 29 تشرين الأول 2004 بشريط فيديو جديد، خصّصه «عدو الدولة الأول» لتحديد موقفه من الانتخابات الأميركية. وللمرة الأولى وبشكل غير مسبوق، أعلن بن لادن أنه ضد جورج دبليو بوش، وأنه بما ومن يمثل، يدعو إلى عدم انتخابه.
بعد 96 ساعة فقط على ذلك الفيديو، انتخب الأميركيون بوش، وأسقطوا كيري. بعد سنتين، أعلن محللو «سي آي أي» أن اقتناعاً تكوّن لديهم بأن زعيم «القاعدة» هو من اختار رئيس الولايات المتحدة الأميركية. لم يكتف محللو لانغلي يومها بإعطاء الاستنتاج المذكور بشكل مبسّط. بل أرفقوه بكامل قراءتهم. بن لادن أدرك منذ اندلاع الحرب بينه وبين واشنطن، أن بوش أفضل حليف موضوعي له، من أجل نقل معركته إلى قلب الغرب. ومن أجل ضمان بيئة صالحة لاستمرار تعبئته القاعدية، وتأمين تربة سياسية خصبة لتجنيد إرهابييه، في مواجهة عدو مطلق. ولم يخذل بوش «حليفه». فاستمرت الحرب حالة مفارقة مربحة للطرفين، كل بحسب خلفياته وأهدافه. حرب توّجتها مصادفة أن بوش لم يقبض على بن لادن. بل استعان بحربه ضده وبعدائه له وامبراطوريته وغربه، من أجل شرعنة دخول أميركا حربها العالمية الثالثة. من أفغانستان إلى العراق فلبنان وسوريا، وصولاً إلى سلسلة ثوراته الملونة في مختلف أنحاء العالم. حرب باسم الليبرالية الرأسمالية، ضد «الإسلاموية الفاشية» كما نظّر لها برنارد لويس. مصادفة، لم تنتس إلا بعد مصادفة أخرى، أن يسقط أسامة بن لادن بعد سبعة أعوام على خياره الرئاسي ذاك، على يد باراك حسين أوباما بالذات. في توقيت رائع، عشية اندلاع أحداث الربيع العربي، الذي بدأ مشروعاً إخوانياً أميركياً، لاستيعاب الإسلاموية نفسها، ولترويضها ضمن النموذج الإردوغاني.
مضت الأيام والأعوام. القاعدة ولدت مسخاً شرعياً اسمه «داعش». التحالف الأميركي ــــ الإخواني سقط من تونس إلى مصر. حتى صار نموذجه التركي نقيضاً لكل ما كانه، وصولاً إلى تحوّله مشروع ديكتاتورية ميليشياوية شعبوية دينية، كسرت دولة أتاتورك في عمق نسيجها المجتمعي والبنيوي والنظامي. وحدها واشنطن لا تزال هي هي. امبراطورية تنتخب رئيساً للبيت الأبيض، فيصير سيداً لبيوت العالم بأسره. ووحدها واشنطن تلك لا تزال تختار بين خليفة جورج دبليو بوش، وبين خليفة جون كيري. بين دونالد ترامب وهيلاري رودهام كلينتون. وفي حمأة الصراع بين الاثنين، سجال مستدام حول أمن الوطن الأميركي والإرهاب و»الفاشية الإسلاموية» ذاتها. في خضم الصراع والنزال، يخرج مهووس في أورلاندو، لينفّذ مذبحة في ملهى ليلي. فيصعد ترامب في استطلاعات الرأي الأميركية الرئاسية إلى عقب منافسته. بعدها يخرج مهووس آخر في نيس الفرنسية، فيتساوى ترامب مع كلينتون، عشية تطويبه مرشحاً جمهورياً من درجة فوق الحزب وفوق العادة. لم يعد ينقص ترامب ــــ بوش ربما إلا مذبحة واحدة، في توقيت خريفي، للوصول إلى البيت الأبيض. ليكتب ربما بعد أعوام، أن «داعش» هي من اختارت رئيس الولايات المتحدة الأميركية بشكل مدروس. أو أن الفاشية الإسلاموية هي من حددت هوية حليفها الموضوعي بشكل عفوي تلقائي. بعدها تؤمن واشنطن لـ «داعش» بيئتها المطلوبة للتعبئة والحشد والتجنيد والاستعداء. وتؤمن «داعش» لأميركا العدو الأول للدولة، بما يضمن استمرار استنزاف العالم، من أوروبا وصولاً إلى الصين. ويؤمن الاثنان للشريك الثالث الصامت بينهما، صهيونية مطمئنة إلى حرب منسية بين النهر والبحر. نظرية مؤامرة؟! ربما. لكنها تتمتع بكل مقوّمات المؤامرة وعواقبها الفعلية. ألم يؤكد أحد المفكرين أن مشروع الامبراطورية قد اجتاحنا ثلاث مرات تحت جنح الدين وعلى أجنحته الإلهية: مرة باسم الفرنجة، ومرة بواسطة كيان الشعب المختار، واليوم باسم إرهاب الإسلام؟!