استطاع الفريق المحيط بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة التخلص اخيرا من الجنرال محمد مدين المعروف باسم «توفيق» الذي كان الحاكم الفعلي للجزائر في معظم السنوات الخمس والعشرين الماضية. لا بدّ من التشديد على كلمة معظم، لأن وضع «توفيق» بدأ يتراجع منذ سنوات عدة سبقت السقطة الأخيرة.
كان «توفيق»، لفترة طويلة، يسمّى «ربّ الجزائر». كان مركز القوّة الأقوى بين مراكز القوى الأخرى في الجزائر. كان صانع الرؤساء وكان عبر «دائرة الإستعلامات والأمن» السلطة العليا المشرفة على كلّ ما يدور في البلد وفي اداراته. كان يكفي سماع أنّ مسؤولا على علاقة ما بـ»توفيق» كي يصبح في الإمكان القول أنّ هذا المسؤول يمتلك نفوذا حقيقيا وأنّه ليس مجرد مُوظّف عادي في الدولة.
كان «توفيق» الذي «تقاعد»، حسب الرواية الرسمية، مع بلوغه السادسة والسبعين من العمر، الرجل الغامض الذي لا صورة رسمية له. كان الأمن داخل البلد وخارجه في عهدته. لا يُعرف عنه الكثير باستثناء أنّه كان يحرّك كلّ ما في الجزائر بطريقته الخاصة، فضلا عن أنّه رجل متقشّف وصارم، منطو على الذات، تقتصر صداقاته على عدد قليل جدّا من الإشخاص.
عمل «توفيق»، مع ضبّاط آخرين، ابتداء منذ العام 1998 على الإتيان ببوتفليقة رئيسا للجمهورية في ربيع العام 1999.
كان على بوتفليقة الإنتظار ستة وثلاثين عاما عاما كي يتحقّق حلمه، هو الذي شعر دائما بمقدار كبير من الظلم عندما استُبعد عن خلافة هواري بومدين مطلع العام 1979 لمصلحة العقيد الشاذلي بن جديد ممثّل المؤسسة العسكرية. خسر الرهان ذاته محمّد صالح يحياوى، رجل الحزب الحاكم وقتذاك. لكنّ التاريخ نسي يحياوي وانصف بوتفليقة عن طريق الذين استبعدوه. اعاد هؤلاء الإستعانة به للتكفير عن ذنبهم، أو بسبب الحاجة إليه، لكنّهم نسوا أن لدى بوتفليقة هاجس الإنتقام الذي لم يفارقه وأنّ لديه حساباته الخاصة مع المؤسسة العسكرية التي يريد تصفيتها يوما.
أخيرا عرف بوتفليقة كيف يتجاوز العسكر، بل كيف ينتقم منهم من كرسيّه النقّال. لم يبق امامه سوى «توفيق» كي يؤكّد أنّ المؤسسة العسكرية ليست من سيقرّر من سيكون خليفته. عاش بوتفليقة كي يشهد مثل هذا اليوم. إنّه يوم التخلص من «توفيق» بصفة كونه الممثل الشرعي، شبه المتبقي، للمؤسسة العسكرية.
بعد الآن، سيتقرّر من سيخلف بوتفليقة داخل الحلقة الضيقة التي تطوّق الرئيس الجزائري الذي هو ايضا وزير الدفاع.
في النهاية، على افراد هذه الحلقة حماية انفسهم من أيّ ملاحقات في مرحلة ما بعد بوتفليقة. المسألة مسألة حياة أو موت بالنسبة اليهم. لذلك، كان عليهم تصفية كبار رجالات المؤسسة العسكرية الواحد تلو آخر كي يبقى «توفيق» وحيدا. سقط «توفيق» من تلقاء نفسه مثل ثمرة ناضجة على شجرة، خصوصا بعد تجريده من كلّ ادواته الضاربة، بما في ذلك تقليص صلاحيات الدائرة التابعة له والتي لم تعد قادرة على التعاطي مع قضايا الفساد. الأكيد أن المجموعة المحيطة ببوتفليقة استخدمت كلّ الوسائل المتاحة للسيطرة على العسكر معتمدة اساليب في غاية الذكاء والخبث وذلك منذ استطاع بوتفليقة استبعاد رئيس الأركان الجنرال محمّد العماري في العام 2004.
عمليا، ليس بوتفليقة في ايّامنا هذه سوى رمز للسلطة في الجزائر. من يستخدم السلطة هو الفريق المحيط به. من ابرز اعضاء هذا الفريق أخوه سعيد الذي يمارس دور رئيس الظل.
دخلت الجزائر مع «تقاعد» الجنرال «توفيق» مرحلة جديدة من تاريخها القصير الممتد منذ الإستقلال في العام 1962، ثمّ انقلاب هواري بومدين ورفاقه من «مجموعة وجده»، المدينة المغربية التي كانت توفّر لهم المأوى في عهد النضال من أجل التخلص من المستعمر الفرنسي. لا تتميّز المرحلة الجديدة بتراجع دور المؤسسة العسكرية ـ الأمنية فحسب، بل بظهور نتائج الفشل الإقتصادي والسياسي والإجتماعي لطبقة سياسية حكمت البلد طويلا ايضا.
هذا الفشل جاء على كلّ المستويات، بما في ذلك التنمية وبناء نظام شبه معقول بعيدا عن سيطرة المؤسسة العسكرية ـ الأمنية التي انشأها هواري بومدين والتي قادت البلد من فشل إلى آخر في كلّ الميادين، بدءا بالزراعة وصولا إلى التعليم، مرورا بالصناعة والخدمات.
لعلّ أخطر ما نشهده اليوم في الجزائر أنّ البديل من «توفيق» ليس موجودا، خصوصا بعد تفكيك الدائرة التي كان على رأسها. كلّ ما في الأمر، أن هناك من يريد التخلص من الرجل لتغطية فساده لا أكثر. فبوجود «توفيق» وغيابه، لا يزال السؤال نفسه مطروحا. لماذا لم تستطع الجزائر استغلال ثرواتها في التنمية البشرية والإقتصادية؟ لماذا بقيت الجزائر، على الرغم من كلّ ما تمتلكه من ثروات طبيعية أخرى وطاقات بشرية اسيرة سعر النفط والغاز؟
عندما اندلعت الثورة الشعبية في خريف العام 1988، لم يكن من خيار سوى العمل على تفادي ثورة أخرى في المستقبل. في اساس تلك الثورة التي استمرّت عشر سنوات، رئيس ضعيف هو الشاذلي بن جديد، كان اتكاله الوحيد على سعر النفط والغاز. كان الشاذلي يظنّ ان مشكلة الجزائر يحلها بناء مساكن وتوزيعها على المواطنين.
لا بدّ من الإعتراف بأنّ المؤسسة العسكرية ـ الأمنية الجزائرية استطاعت التعامل مع المتطرفين الإسلاميين الذين ارادوا أخذ الجزائر إلى الهاوية. كان «توفيق» بين الضباط الذين ساهموا في «اجتثاث» التطرّف والإرهاب في مرحلة كانت فيها الجمورية في خطر. كان بين الذين دفعوا الشاذلي بن جديد إلى الإستقالة اواخر العام 1991، بعدما تبيّن أن الإسلاميين حققوا انتصارا كبيرا في الإنتخابات البلدية وأنّهم يتجهون إلى حكم الجزائر.
بين 1988 و 2015، نجد ان التاريخ يعيد نفسه في الجزائر حيث لا رغبة في القيام بنقلة نوعية على صعيد التفكير في المستقبل.
«يتقاعد» الجنرال «توفيق» في وقت لا يقدّم ذلك ولا يؤخر. المشكلة أن الجزائر مريضة. في اساس مرضها عدم وجود طبقة سياسية قادرة على اعداد البلد لمرحلة ما بعد النفط والغاز. هناك من يعدّ نفسه لمرحلة ما بعد بوتفليقة بغية توفير حماية له من الملاحقة القانونية مستقبلا.
إنّها مأساة جزائرية تختزلها قصّة «توفيق». يُخشى أن تتكرر المأساة هذه المرة في وقت لا يوجد فيه من يستطيع انقاذ البلد كما حصل في الماضي القريب. صحيح أنّ اسم «توفيق» ارتبط بسنوات القمع التي تسمّى «سنوات الجمر»، لكن الصحيح ايضا أنّ المؤسسة العسكرية ـ الأمنية كان يمكن ان تكون هذه الأيّام الملاذ الوحيد للجزائريين في ظلّ الفراغ الذي خلقه رئيس للجمهورية، وهو رئيس مقعد، يصرّ على حكم الجزائر من كرسيه النقّال.
تستأهل الجزائر ما هو افضل بكثير، نظرا إلى ما تمتلكه من مواهب وسياسيين ورجال دولة وديبلوماسيين استثنائيين. تستأهل الجزائر أوّل ما تستأهل رئيسا لا تحرّكه رغبة في الإنتقام من حدث ذي طابع شخصي عمره 36 عاما وبطانة لا همّ لها سوى قطع الطريق على أي ملاحقة ذات علاقة بالفساد وما شابه ذلك مستقبلا.