خطة إصلاح مالي من دون ختم «صندوق النقد» تقطيع للوقت.. وأولويات الدول المانحة إلى تبدّل
تكتسب أيّ خطة أهميتها من مدى واقعيتها، ومدى قدرة القيّمين عليها على إنجازها. الخطة هي حبر على ورق والعبرة في التنفيذ. اليوم تنكبّ حكومة حسان دياب على دراسة خطة إصلاح مالي هي جزء من خطة إصلاح شاملة وَعَدَتْ بها. والكلام يدور حول أن فريقاً واسعاً يعمل مع مستشارين لهم علاقات مع صندوق النقد الدولي للخروج برؤية حكومية تكون مقبولة من «الصندوق». هذا أمر إيجابي، لكنه لا يعني شيئاً قبل أن يضع «الصندوق» ختمه، والذي تنحصر وظيفته بالمالية العامة والنقد فقط، ولا تتعداها إلى المشاريع الإنمائية.
و«خَـتْـمُ الصندوق» لن يأتي قبل أن يتمّ الاتفاق على خطة قابلة للتنفيذ. بعد التصديق، يصبح عندها الحديث عن بدء العدّ العكسي ذا معنى. فلعبة التذاكي على الطريقة اللبنانية لا تُفيد هنا، وكذلك سياسة تمرير الوقت. فالانهيار يضرب لبنان قبل أن تطفو أزمة كورونا إلى السطح، التي ما أن تنتهي، سيتضاعف وقع الانهيار بفعل التداعيات الإضافية للوباء، ليصبح في قلب الانفجار، ومعه حكومة حسان دياب.
سيكتشف أرباب الحكومة عمق الحفرة التي وقعوا فيها، وتبعات مغامرات الانقلاب على التوازن السياسي الداخلي وارتداداته. سيتبين بما لا لبس فيه أن الحصار مُحكم على لبنان بفعل سياسة وضع اليد عليه وجرّه إلى «محور إيران». وسيتيقن دياب أن أبواب الخليج مُوصدة بالكامل أمامه، وأن النظرة إليه غارقة في السلبية، وتزيد قناعة تلك الدول يوماً بعد يوم بالسمة التي تطبع رئيس الحكومة بأنه «الرئيس الواجهة الفاقد للصدقية». وسيتأكد رعاة الحكومة، وفي مقدمهم «حزب الله» أن الرهان على إمكانية الإفادة من أزمة «كورونا» لإحداث «اختراق ما» على مستوى المواجهة الدائرة في المنطقة هو رهان في غير محله.
والأهم الذي سيظهر جلياً لأركان الحكم هو أن أولويات الدول المانحة قد تبدَّلت في ظل الانكماش الاقتصادي الذي سيُصيب الجميع وسيُولّد أزمات عالمية جديدة بعد احتواء الوباء، فكيف إذا كانت هذه الدول، والتي تنضوي ضمن مجموعة الدعم الدولية للبنان، أصابتها بعد الاجتماع الرئاسي فجيعة بفعل تنامي هذا القصور في رؤية القيادة اللبنانية التي يُفترض أن تطرق معالجات صائبة وناجعة تمكنها من وضع البلاد على بداية مسار الخروج من الانهيار الكلي، ومعه ستكون الفرص المتاحة أمام لبنان بأموال «سيدر» شبة معدومة؟
أبواب الخليج مُقفلة أمام رئيس مجلس الوزراء والنظرة إليه تزداد سلبية كـ «رئيس واجهة فاقد للصدقية»
لن يكون من مَخرج أمام الحكومة ورعاتها، إلا اللجوء إلى صندوق النقد، الذي يستحوذ لبنان على حصة فيه تبلغ 0.4 بالمئة. والكوتا العائدة له يمكن أن تصل إلى 3 مليارات دولار في السنة، إذا قرر طلب المساعدة منه. وقد سبق لـ111 دولة من أصل 193 دولة أن احتاجت إلى صندوق النقد منذ إنشائه. ما يفعله صندوق النقد هو دعم الدول المتعثرة لإعادة التوازن إلى ميزانيتها العامة، ويترتب على الطرف المُستدين إعادة الأموال بعد 3 أو 5 سنوات، بفائدة بسيطة. لكن هذه العملية لا تتم من دون خطة مدروسة حول كيفية تحقيق توازن الموازنة وتوازن ميزان المدفوعات، واعتماد آليات شفافة ومراقبة عن كثب وتدقيق لحسابات الدولة بوتيرة منتظمة.
من هنا، ليس ثمة اعتقاد بأن سلوك درب «الصندوق» معبّدة حتى الآن ما دامت القوى المسيطرة على مفاصل الدولة تعتقد أنها لا تزال قادرة على احتواء الوضع ولو مؤقتاً، لكسب مزيد من الوقت. في رأي أحد الخبراء الذي عمل في مؤسسات مالية دولية أن التهرّب من اللجوء إلى «الصندوق» ليس بسبب الشروط التي يفرضها، بل بسبب انكشاف هؤلاء. فالصندوق لن يتعاون مع الدولة اللبنانية من دون حل مشكلة الكهرباء التي تكلف الخزينة ملياري دولار سنوياً، ومن دون ضبط المرفأ، الذي انخفضت إيراداته الجمركية بشكل كبير. ويكفي التمعّن بهذين النموذجين لاستبيان حجم الضرر الذي سيلحق بمصالح المنتفعين من استشراء الفساد في الدولة وإداراتها.
وما سيزيد من المأزق الداخلي، توقع مزيدٍ من انكشاف هشاشة الحكومة رغم كونها حكومة اللون الواحد. فتوليفتها جرت تحت ضغط مطالبة «حزب الله» بـ «حكومة مهما كلف الأمر ومهما كان الثمن»، ومن دون التوصل إلى تفاهم مُسبق على تفاصيل ودقائق أجندتها وأولوياتها، ومن دون خطة مبنية على ما يمكن أن يشكل مساحات مشتركة بين أطيافها، فإذا بها اليوم تواجه المطبّات، الواحد تلو الآخر، مع كل استحقاق يُطرح أمامها، وكل ملف تقاربه. فذلك ما حصل في التشكيلات القضائية، والتعيينات المالية، ومشروع «الكابيتال كونترول»، وعودة المغتربين. وهو المتوقع أن يستمر في ظل الحسابات المختلفة لأربابها، والركون إلى «سياسة القطعة»، ما يجعلها أمام تحدٍ دائم بالانفجار من الداخل، أو على أقله بالعجز.
وإذا كانت أزمة «كورونا» قد أتاحت للحكومة بعضاً من هامش الوقت، مع انشغال الجميع في كيفية احتواء تفشي الفيروس بشقه الصحي، فإن انتهاء هذه المرحلة سيفتح «أبواب جهنم» عليها، خصوصاً أنها ستكون عاجزة ومقيّدة في التعامل مع الآثار السلبية على المستوى المعيشي والاجتماعي، حيث قفزت نسبة الفقر في لبنان فوق عتبة الخمسين بالمئة بكثير، وسط انسداد أفق المعالجات الداخلية والمساعدات الخارجية، ومع اقتصاد مُدمَّر وتدهور متماد مالي ونقدي.
سيكون المشهد الآتي، بعد «كورونا»، سوداوياً. لم يعد السؤال متعلقاً بالحكومة الراهنة، فقد تجاوزتها الأحداث. السؤال المطروح اليوم يتناول مرحلة ما بعد العهد الحالي، وكيفية استعادة لبنان. وهذا هو الاستحقاق الأكبر!.