تحدٍّ جديد، لكنه أصعب بكثير على الفاتيكان الذي نجح ببركة البابا فرنسيس ووساطته في إنهاء العداء التاريخي بين الولايات المتحدة الأميركية وكوبا، وهو يتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان.
حتى الساعة، لم يسلك السفير البابوي غبريال كاتشيا طريق بعبدا ليُهنّئ الرئيسَ الجديد بانتخابه، علماً أنّ الفاتيكان يبذل كلَّ المساعي الممكنة مع واشنطن وباريس وطهران والرياض لحلّ عقدة المنصب الأول للموارنة في الشرق. لكنّه بات متأكداً أنّ عمق الخلافات المسيحية تتجاوز تاريخ الأزمة الكوبية – الأميركية، وتتخطّى خطر الصواريخ النووية التي كان سينصبها الإتحاد السوفياتي في كوبا ليُهدّد أمنَ أميركا ضمن لعبة الحرب الباردة.
تصطدم مهمّةُ الفاتيكان الرئاسية بعِقَد داخلية، أبرزها تمسّك رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون بترشحه، ما يجعل العامل الداخلي معاكساً لمساعي البابا. وقدّ عبّر كاتشيا مرّات عدّة، وفي مجالسه الخاصة ولقاءاته، عن إمتعاضه الكبير من تصرّفات عون، وذهب الى حدّ تحميله مسؤولية عرقلة الإستحقاق الرئاسي، وهذا الموقف تتردّدت أصداؤه في أروقة الفاتيكان الذي بات يعلم علمَ اليقين مَن المعرقل الحقيقي، ومَن يُستخدم كواجهة.
أما المفاجأة الإيجابية التي طبعت الساحة السياسية هذا الاسبوع، فكانت إعلان كاتشيا عن حلول داخلية واقليمية ودولية تلوح في الأفق الرئاسي، وهذا الموقف يُعلنه للمرة لأولى سفير دولة، إذ ثبت أنّ الفاتيكان من الدول العظمى في العالم التي لها تأثير معنوي، لكنّ هذا التأثير بات سياسياً، إذ إنّها ترعى ما يزيد عن مليار كاثوليكي في العالم، وهؤلاء في عددهم يزيدون عن أعداد سكان الدول العظمى، فيما التركيبة الهرَمية للكنيسة في العالم تجعلها دولة تتخطّى بسلطتها حدود الدول المتعارَف عليها.
على سبيل المثال، في كلّ بلدة لبنانية مسيحية، كاهن، وكلّ كاهن مرتبط بأبرشيته، والأبرشيات مرتبطة بالبطريركية، المرتبطة بدورها بالسفارة البابوية والفاتيكان، وبالتالي فإنّ القرار الذي يُصدِره البابا يصلُ سريعاً الى أصغر بلدة مسيحية في الأطراف، وكلّ ما يحصل في تلك البلدات تعلم به دوائرُ الفاتيكان.
أمّا سياسيّاً، فإنّ تفاؤل الفاتيكان ناتجٌ عن عوامل عدّة مترابطة بعضها ببعض. وينقل قريبون من الفاتيكان لـ»الجمهورية» أنّ «حلّ الأزمة الكوبية له أبعاد استراتيجية مهمّة، فالبابا وضع ثقله في هذه المسألة لإنهاء النزاع ما بين أميركا الجنوبية والشمالية. وعلى رغم أنّه بابا ينتمي الى القارة الأميركية إلّا أنّه يولي لبنان الإهتمام نفسه».
ويوضحون أنّ «توقيت الحلّ أتى بعدما تلقت روسيا ضربة موجعة وشبه قاتلة بتراجع أسعار النفط، إذ إنّ حلم إعادة إحياء الإتحاد السوفياتي ذهب الى غير رجعة، وكلّ ما يُحكى عن ثنائية عالمية، ثبُت أنه أوهام، وقد فهمت كوبا أنّ أميركا ما زالت القطب الأحادي الذي يحكم العالم ومن غير المنطقي إبقاء النزاع معها».
أما لبنانياً، فإنّ تفاؤل الفاتيكان مستندٌ الى ما يحصل مع روسيا. فانهيار أسعار النفط وتراجع قوة روسيا في العالم وفي المنطقة سيُضعف محور الممانعة المتمثل بإيران التي تعاني أيضاً أزمة مالية نفطية، ونظام الأسد الذي سيفتقد الى التمويل الكافي للصمود في الحرب، و«حزب الله» المرتبط بسوريا وإيران، وبالتالي فإنّ هذا الضعف سيؤثر في عون الذي يختبئ خلفه محور الممانعة لتعطيل الإستحقاق الرئاسي، وبما أنّ روسيا ستستنجد بالغرب، وتحديداً بأميركا، لإنقاذها من الورطة الإقتصادية، فإنّ واشنطن ستفرض شروطها. وبما أنّ العلاقة جيدة بين الفاتيكان وأميركا، فإنه سيحاول انتخابَ رئيس، والولايات المتحدة لن ترفض هذا الطلب للكنيسة.
التطورُ الدَولي المتمثل بالعهد الجديد مع كوبا كما وصفه الرئيس الأميركي بارك أوباما، وإنهاء الأحلام البوتينية بالنفط الحارق، وتراجع محور الممانعة، كلّها عوامل ستُسهّل ملفات لبنان اكثر، وستحقّق الديبلوماسية الفاتيكانية الذكية أهدافها الإستراتيجية.
فهذه الدولة الصغيرة بمساحتها والكبيرة بتأثيرها لن تترك مسيحيّي لبنان الذين فقدوا أيّ قوة اقليمية تساندهم. وإذا كان كاتشيا أعلن عن بداية الحلول، فهل سيعلن قريباً عن توقيت الحلّ النهائي، ببركة بابويّة تحفظ الوجه المسيحي المميّز للبنان؟