يتردد على كل شفة ولسان سؤال واحد: ماذا بعد «داعش»؟ ينطلق هذا السؤال من هزيمة هذا التنظيم الإرهابي في الموصل في العراق، وفي الرقة في سوريا. غير أن الهزيمة لا تعني النهاية. علمتنا تجارب التعامل مع الإرهاب أن الهزيمة هي بداية لمرحلة جديدة. هكذا حدث بعد سقوط القاعدة في أفغانستان وتصفية مؤسسها اسامة بن لادن. وهكذا حدث بعد سقوط أبو مصعب الزرقاوي في العراق على يد فصائل الصحوة التي أنشأها ودربها وموّلها الأميركيون. وهكذا حدث في المغرب العربي حتى النيجر.. وفي نيجيريا (بوكو حرام).
خسرت «داعش» مصادرها المالية من آبار النفط. وهي المصادر التي كانت تغطي نفقاتها وتستقطب مقاتليها. غير ان العملية الارهابية التي استهدفت مبنيي مركز التجارة العالمي في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2001 لم تكلف بن لادن سوى 250 ألف دولار فقط. وهذا المبلغ هو أقل من كلفة إيجار شقة صغيرة واحدة لمدة سنة واحدة في المركز.
لا تشكل الثروة المالية المصدر الأساس لتمويل الإرهاب. إن البطالة والفقر والحرمان والتهميش وامتهان كرامة الإنسان هي آبار النفط التي لا تنضب لتمويل الإرهاب والتشجيع عليه. فالإرهابيون ما ارتكبوا جرائمهم للحصول على المال أو لجمع الثروات، وإلا كيف نفسّر العمليات الانتحارية؟ وهم لم يقدموا على ما أقدموا عليه دفاعاً عن عقيدة أو دين، وإلا كيف نفسّر تهديم المساجد والكنائس، وحتى محاولة نسف الكعبة المشرّفة في مكة المكرمة؟ كان المال وكانت العقيدة الدينية أدوات ووسائل، ولم تكن هدفاً. وطالما أن ثمة أرضية محروثة لغرس بذور الإرهاب، وطالما أن ثمة أجواء صالحة لنموها ورعايتها، فإن الارهاب، كما حدث سابقاً، قد يستمر من خلال اشكال جديدة.. يبتدعها الإرهابيون.. ومن أجل أهداف جديدة يدّعون العمل على تحقيقها.
تتمثل الأرض الصالحة لنمو الإرهاب في الواقع المتمثل بإدراج العديد من الدول العربية على لائحة الدول الفاشلة من ليبيا الى اليمن. كما تتمثل في تنامي الانقسامات المذهبية والعنصرية في عدد آخر من هذه الدول، وبخاصة في سوريا والعراق. وكذلك في تراجع النمو الاجتماعي والاقتصادي في أكبر هذه الدول (مصر ذات المائة مليون مواطن نموذجاً). كما تتمثل الأرض الصالحة لنمو الإرهاب في فشل، أو تفشيل، أي تسوية للقضية الفلسطينية، مع انقسام فلسطيني – فلسطيني وتقدم لليهودية الدينية على العلمانية الصهيونية في إسرائيل؛ وما يعكسه ذلك على الحركات العنفية التي تصادر الإسلام مظلة لها وترتكب جرائمها باسمه.
كذلك لا يشكل الدين (الاسلامي) مصدراً للإرهاب أو لتبريره. إن الأمية (التي تصل نسبتها الى 80 بالمائة في بعض المجتمعات العربية) والجهل بالدين وبأسسه وبقواعده وبرسالته الإنسانية، إن كل ذلك يُستغلّ كمظلة واقية للإرهابيين، أو هكذا يعتقدون، تعطي جرائمهم ضد الإنسانية شرعية وهمية، تضاعف من فداحة هذه الجرائم ومن أخطارها.
يعطي هذا الواقع المحزن بعداً أشد إيلاماً للسؤال: ماذا بعد «داعش»؟
عندما قطع ذنب الأخطبوط الإرهابي في أفغانستان بمقتل بن لادن والقضاء على تنظيم القاعدة، نمت له أذرع في العديد من الدول الأخرى التي تعاني، مثل أفغانستان، من الفقر والجهل، أو من الهيمنة الأجنبية أو من الاستبداد الداخلي، أو من كليهما. قُتل بن لادن. فبرز الزرقاوي. قُتل الزرقاوي فبرز البغدادي.
والسؤال الآن ماذا بعد البغدادي؟ بل مَن بعد البغدادي؟
لا يمكن استبعاد هذا السؤال بمضامينه السوداء المقلقة إلا إذا تصرفت دول العالم الإسلامي ودول العالم ايضاً بأسلوب مختلف عن السابق، وبمنهجية جديدة.. تتجنب معها ارتكاب الأخطاء السابقة مرة أخرى.
وهذا يعني أن على دول العالم الإسلامي اتباع منهجية في الحكم الرشيد تحترم فيها حرية الإنسان وكرامته، وتحترم حقه في الحياة الكريمة سكناً وعملاً ودراسة ورعاية طبية واجتماعية.
ويعني أن على دول العالم اتباع منهجية تحترم الإسلام كدين ورسالة سلام ومحبة للناس أجمعين، وليس اتهامه بل وإدانته كمصدر للإرهاب وحاضن له.
لم يعد مقبولاً، وهو ليس مقبولاً في الاساس، أن تمارس دول عربية وإسلامية سياسة القبضة الحديدية لإخضاع الناس وقهرهم وحرمانهم من حقهم في صناعة مستقبلهم. ولم يعد مقبولاً، وهو ليس مقبولاً في الأساس أيضاً، أن تُمارس دول العالم سياسة التعامي، الى حدّ التواطؤ، عن السياسة التدميرية للإنسان ولحقوقه ولكرامته، من أجل المحافظة على أنظمة تؤمن لها مصالحها وتنفذ لها أوامرها وتوجيهاتها.
لقد دفعت كل هذه الدول، بما فيها الدول الإسلامية والعربية أثماناً مرتفعة جداً لتلك السياسة التي انبثقت منها بذور الإرهاب. ولما نمت هذه البذور عملت على رعايتها، بعضها عن جهل وبعضها عن تجاهل، وأكثرها للضغط أو الابتزاز، أو حتى «للنكاية» بخصم قريب أو بعيد. كذلك لم يعد مقبولاً أن لا يرتفع الصوت الإسلامي عالياً ومدوياً لتسفيه جهالات سوء تأويل الدين، وسوء تقويله ما لا يقول به.
لقد أثبتت التجارب أن مقاومة الاحتلال بالإرهاب خطأ (تجرية «القاعدة»). فالإرهاب يستدرج الاحتلال ويستدعيه ويفتح له الأبواب المغلقة (التجربة السورية). وأثبتت التجارب أيضاً أن القضاء على الظلم والفساد بالإرهاب خطأ (تجربة «داعش» التي عممت الظلم والفساد حتى بدت «كالمستجير من الرمضاء بالنار»). وإن مقاومة التمييز المذهبي والعنصري بالإرهاب خطأ (تجربة «النصرة» التي من أجل أن تستقطب أهل مذهب أو دين آخر استعدت الجماعات الدينية والقومية الأخرى). لقد أثبتت التجارب أن تصحيح الخطأ بخطأ هو أيضاً خطأ.
وإن أفدح هذه الأخطاء وأخطرها هو السكوت على استخدام الدين وعلى تشويه قيمه ومبادئه. ذلك أن السكوت على الخطأ خطأ مثله.. وعندما يتعلق الأمر بالدين فإن الخطأ يكون أسوأ وأشد ضرراً.
من هنا، فحتى لا تكون هناك «داعش»، بعد سقوط «داعش»، أي حتى نخرج من دوامة سوء العمل ونحن نعتقد أننا نحسن صنعاً، لا بد من مراجعة نقدية لسلسلة الأفعال، وردات الأفعال التي أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم.. لا نتحمل رؤية وجوهنا أمام المرآة.
إن سلوك الطريق الصحيح يتطلب أولاً الخروج من الطريق الخطأ.
وأول محطة في الطريق الصحيح هي محطة الاعتراف بالخطأ.